نحن نعيش في عصر تمثل فيه الحضارة الرأسمالية القوة الدافعة الأساسية للتغيير في نظام كوكب الأرض، مما يتسبب في خرق مثير للقلق لقدرات الكوكب، واضطراب في الأنظمة المناخية والبيئية التي تهدد الحياة في جميع أرجاء الكوكب. وعلى خلاف مصطلح الأنثروبوسين الأكثر انتشارًا، الذي يشير إلى الحقبة التي شهدت تأثيرًا بشريًا كبيرًا على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية، يجادل جاسون مور1 واندياس مالم2 واخرون بأننا نعيش في عصر “الكابيتالوسين Capitalocene”، حيث تعد الرأسمالية كنظام مهيمن (وليس البشرية بأسرها) مصدرًا للوضع الذي نعيشه الآن. وفقًا لهذه الرؤية، تعتبر الرأسمالية نظامًا يُحكم علاقات القوة والتراكم وإعادة الإنتاج داخل شبكة الحياة. التمدد المستمر للنظام الرأسمالي، مدعومًا بالاستغلال المستمر للطاقات البشرية وغير البشرية، يقود إلى استغلال واستنزاف وتراتبية شبكة الحيوات على الكوكب.
يجب ألا يحجب انشغالنا بمخاطر التسارع المستمر لتغير المناخ وتدهور الموارد البيئية، كما تسجله تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، الحاجة إلى التركيز على الأسباب الجذرية لهذا الخلل والتصدع في النظام البيئي. فهذا الخلل ليس نتاجًا لإجمالي سكان الكوكب كما تحاول بعض القراءات المجتزأة تصويره وتقديمه على شكل معادلة مالتسية للأزمة؛ بل يشير الإنتاج المعرفي المتراكم الآن بلا شك إلى أن المسؤولية واضحة ومحددة وهي نتيجة لبنية النظام الرأسمالي. كمثال على ذلك، يمكن الإشارة إلى تقرير مركز المساءلة المناخية الذي يوضح أن 100 شركة عالمية فقط كانت مصدرًا لأكثر من 70٪ من إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم. كما يمكن الإشارة إلى دراسة جيسون هيكل3 التي تظهر أن الولايات المتحدة مسؤولة بمفردها عن 40٪ من الانبعاثات الزائدة لثاني أكسيد الكربون العالمية، والشمال العالمي مسؤول بشكل جماعي تاريخيًا عن لا يقل عن 92٪ من هذه الانبعاثات، وبالتالي، فإن المسؤولية التاريخية تتطلب جبر الضرر عبر تحمل نتائج الخسائر والأضرار الناجمة عن اضطراب نظام الكوكب، وجبر الضرر ليس منة أو تعاطفًا أو عونًا، ولكنه ركن أساسي من أركان العدالة الإجرائية، بالإضافة إلى كونه عرفًا مترسخًا لدى الشعوب الأصيلة والمجتمعات المحلية.
ورغم تسارع الأزمة، إلا أنه في عالم اليوم نلاحظ أيضًا زيادة النقاشات والفعاليات والنضالات التي تدفع نحو تبني نظام إنتاج واستهلاك بديل، مناهض للنظام المهيمن الذي ينتج شكلًا من أشكال الاغتراب أو الانفصال بين الإنسان والطبيعة. هذا الاغتراب أو الانفصال ولَّد صدعًا في التبادل المتكافئ بين الإنسان والطبيعة، مما يعيق استمرارية وتجدد البيئات الطبيعية والمجتمعات الإنسانية.
تتمحور فكرة العدالة البيئية حول التوزيع العادل والمتكافئ للأعباء والفوائد البيئية، وتشجع المشاركة في صنع القرارات البيئية. إن غياب العدالة البيئية يتجلى في فقدان الإنصاف والمساواة في الوصول إلى الموارد الطبيعية وغياب العدالة في توزيع المنافع المرتبطة بهذه الموارد، مثل الأراضي والمياه والمراعي ومصائد الأسماك، بين الفئات السكانية المتنوعة. كما يتناول المفهوم أيضًا التفاوت في الأعباء البيئية التي تتحملها القطاعات الاجتماعية المختلفة، والناتجة عن تأثيرات القضايا والأزمات المرتبطة بالموارد الطبيعية. ويشدد هذا المفهوم على الحاجة لإشراك الجماعات المهمشة اجتماعيًا وسياسيًا وجغرافيًا وعرقيًا في صنع القرارات البيئية، وحمايتهم من تحمل المخاطر والأعباء غير المتساوية بين المجموعات الاجتماعية والجندرية للأزمات البيئية. الحركات البيئية بتجذرها هي التي فرضت مصطلحات وممارسات العدالة البيئية والانتقال العادل على النقاشات العامة محليًا وعالميًا لمواجهة كافة أشكال التمييز وغياب العدالة البيئية.
تظهر مفاهيم العدالة وغياب العدالة البيئية في السياق العربي بشكل ملموس ومتعدد، من خلال الوصول إلى المياه النظيفة، والغذاء الصحي، والهواء غير الملوث، والتربة النقية. هناك العديد من الأمثلة على أشكال غياب العدالة البيئية في عالمنا العربي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أوضاع الفلاحين الصغار الذين يتعرضون للظلم البيئي، حيث توجه الموارد المائية والأراضي لصالح المستثمرين الكبار المحليين والدوليين والمزارع التصديرية التي تركز على الأسواق الأوروبية، حيث تعمل النساء عادة في ظروف عمل صعبة وفي سياق استغلالي4.
هذه الممارسات تتعارض مع مبادئ العدالة البيئية، التي تدعو إلى معاملة عادلة ومشاركة فاعلة لجميع الأشخاص، بغض النظر عن العرق، اللون، الأصل القومي، الدخل، الموقع الجغرافي، أو الطبقة الاجتماعية. يتطلب تناولنا لمفهوم العدالة الاجتماعية أخذ هذه التقاطعات بعين الاعتبار، ليس فقط على المستوى العالمي (شمال – جنوب) ولكن أيضًا على المستوى المحلي (الموقع الجغرافي – النوع الاجتماعي – الطبقة الاجتماعية) داخل شبكة علاقات القوى المحلية والدولية. فالعدالة البيئية ليست بديلًا عن العدالة الاجتماعية، وإذا كانت هناك معالجات تركز على لغة ضيقة لمسألة العدالة البيئية وتحاول فصل البيئي عن الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وتعزل المحلي عن العالمي، فإن أحد الأدوار المنوطة بالحركة البيئية هو إيجاد أطر تسمح باستخدام لغة واسعة للعدالة البيئية تشمل مسائل العدالة التوزيعية والاعتراف الثقافي والنوع الاجتماعي والعدالة الإجرائية.
وإذا انتقلنا إلى مفهوم وممارسات الانتقال العادل، فيمكن فهم الانتقال العادل في سياق المنطقة العربية كنهج متعدد الجوانب يربط بين الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية، يمتد من المجتمعات المحلية إلى الدول الوطنية ويتسع إلى نطاق عالمي. يفتح هذا النهج مجالًا لمحادثات حيوية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الطبيعة والنوع الاجتماعي والطبقات الاجتماعية وأشكال متعددة من مكافحة الاستعمار الجديد فيما يتعلق بالانتقال نحو بديل منخفض الكربون لأنظمتنا الحالية. في جوهره، يعني الانتقال العادل خلق علاقة جديدة وتصور بديل، ليس فقط في علاقتنا البيئية، ولكن في مجتمعاتنا، واقتصاداتنا، وأسلوب إنتاجنا واستهلاكنا. يتطلب منا جميعًا – المنظمات المدنية والحكومات والمجتمعات والأفراد – الاجتماع في جهد متوازن لبناء مستقبل ليس فقط مستدامًا، ولكن متجددًا وعادلًا.
في سياق قطاع الزراعة في شمال أفريقيا، سيتضمن الانتقال العادل تعزيز الممارسات المستدامة التي تتعامل مع التحديات البيئية مع دعم معيشة الفلاحين الصغار والمزارعين الصغار من خلال تطوير السياسات العامة. في دراستي5 لإمكانات الانتقال العادل في الزراعة بشمال أفريقيا، بينت قوة المعرفة المحلية والممارسات الزراعية البيئية في مواجهة الأزمات البيئية. من خلال تقييم مقارن للتحولات في سياسات الزراعة في الجزائر، ومصر، والمغرب، وتونس، أكدت على إمكانية الزراعة البيئية وتطوير بعض الممارسات المحلية كأداة لتعزيز انتقال عادل ومتجدد في قطاع الزراعة في شمال أفريقيا.
في الانتقال العادل للزراعة، نجادل بأن السيادة الغذائية لها دور محوري في تحقيق انتقال عادل. من المهم أن ندرك أن مفهوم وسياسات السيادة الغذائية تتعدى الأمن الغذائي. إنها تتعلق بحق الناس في الغذاء الصحي والمناسب ثقافيًا الذي يُنتج من خلال أساليب الزراعة الإيكولوجية، وحقهم في تحديد أنظمتهم الغذائية والزراعية الخاصة بهم. في سياق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يصبح هذا أمرًا بالغ الأهمية بالنظر إلى اعتماد المنطقة على استيراد الغذاء، ومشكلات ندرة المياه، والتحديات الزراعية المرتبطة بتغير المناخ.
ومع ذلك، من الضروري مواجهة التحديات التي تحد من قدرتنا على وضع جدول أعمال هذا الانتقال العادل محليًا وعربيًا، خاصة عند تحليل الصفقات الخضراء الجديدة للكيانات الكبرى والمهيمنة مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. يجب أن تثير طموحاتهم لمستقبل أكثر خضرة اهتمامنا، لأن من الواجب الإشارة إلى العلاقة بين هذه الصفقات الخضراء شمالًا وإثقال كاهل الجنوب من خلال تحويل الجنوب إلى مركز للصناعات الملوثة ومصدرًا لاستيراد الطاقة النظيفة واستمرار أشكال الممارسات الاستخراجية التي تستنزف الموارد والطاقات في الجنوب. وتتحول دولنا إلى مصدر لتعزيز “نمط عيش إمبريالي”6 وملون بأخضر زائف في الشمال، مع استمرار تابعية الجنوب واستمرار التبادل غير المتكافئ بيئيًا واقتصاديًا بين دولنا والشمال العالمي.7 يجب أن ندافع عن انتقال عالمي عادل حقًا لا يترك أحدًا وراءه، مع ضمان توزيع عادل للموارد والمسؤوليات لا يغفل المسؤولية التاريخية وجبر الضرر والتفاوتات المحلية.
غالبًا ما يتم الاعتماد على الاستثنائية في التعامل مع قضايانا العربية في العديد من الأدبيات وأيضًا في المحافل الدولية، وهذا النهج يتطلب أن يُواجه بشكل جذري عند التعامل مع القضايا البيئية والحركة الاجتماعية البيئية. السبب ليس فقط أن الأزمة البيئية التي نعيشها تتجاوز مفهوم الدولة القومية والنطاق الجغرافي، ولكن أيضًا لأن النضالات اللازمة لتجاوزها تتطلب تشبيك النضالات المحلية والإقليمية والعالمية بطرق تنظيمية جديدة.
هذا التنظيم يعيدنا بوضوح إلى جذور المفاهيم التي نناقشها الآن، وأشير هنا بالأخص إلى مصطلحي العدالة المناخية والانتقال العادل. هما نتاج نضالات تولدت بين الفئات المهمشة والمستبعدة. لمنع اختطاف هذه المصطلحات وإزاحتها عن سياقها وتحويلها إلى أدوات لإعادة تشييد النظام الرأسمالي الذي تسبب في الأزمة بلون أخضر زائف، يتعين علينا تنظيم النضالات البيئية بطريقة جديدة.
يقترح نيكولاس شولتز 8 وبرونو لاتور9 أن التغيير في علاقات القوى يتطلب أن تأخذ الحركة البيئية العالمية شكلًا طبقيًا في تنظيم النضال والحركة. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني إعادة إنتاج النموذج القديم للصراع الطبقي الذي ساهم في تخفيف وحشية الرأسمالية رغم فشله في تقويضها. بل سيتطلب الأمر منطقًا طبقيًا إيكولوجيًا واجتماعيًا يخلق موقفًا جذريًا وعالميًا للنضال يضع في قلبه الفئات الضعيفة والمهمشة على الأصعدة المحلية والقومية والعالمية على حد سواء.
1 Moore, Jason W., ed. Anthropocene or capitalocene?: Nature, history, and the crisis of capitalism. Pm Press, 2016.
2 Malm, Andreas. “Who lit this fire? Approaching the history of the fossil economy.” Critical Historical Studies 3, no. 2 (2016): 215-248.
3 Hickel, Jason. “Quantifying national responsibility for climate breakdown: an equality-based attribution approach for carbon dioxide emissions in excess of the planetary boundary.” The Lancet Planetary Health 4.9 (2020): e399-e404.
4 لمزيد من التفاصيل انظر صقر النور، السد والأرز والدولة:العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا، المنصة، 5 مارس 2018. https://almanassa.com/stories/2850
5 صقر النور، السد والأرز والدولة:العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا، المنصة، 5 مارس 2018. https://almanassa.com/stories/2850
6 انظر على سبيل المثال: أولريش براند وماركوس فسن وترجمة بشار الزبيدي، نمط العيش الإمبريالي: استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية، ٢٠٢٣، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
7 Diab, Osama. “Africa’s unequal balance.” Review of African Political Economy (2023): 1-9.
8 Schultz, Nikolaj. “New climate, new class struggles.” Critical zones: The science and politics of landing on earth (2020): 308-311
9 Latour, Bruno, and Nikolaj Schultz. On the emergence of an ecological class: A memo. John Wiley & Sons, 2022.
0 تعليق
اترك تعليقاً