أحمد العدوي، وصقر النور، وياسمين حافظ*
كثيرًا ما يُنظر إلى تغير المناخ كإحدى القضايا الأقل إلحاحًا في المنطقة العربية، حيث يحظى باهتمام محدود في الخطاب العام والتغطية الإعلامية، ويُنظر إليه غالبًا على أنه قضية خارجية [1]. على هذا النحو، تمت مناقشة تغير المناخ ب “منظور غربي” يعكس استمراراً للنظرة الاستشراقية للمنطقة العربية [2]. ومع ذلك، فإن المنطقة العربية عبارة عن بلدان متنوعة تتعامل بشكل مختلف مع مواردها من الطاقة ولديها مستويات مختلفة من المرونة والتعرض لآثار تغير المناخ. مع الاعتراف بأثر الاستعمار والاحتلال في استنزاف الموارد، يسلط هذا المقال الضوء على العوائق الجسيمة التي تواجه الباحثين العاملين في مجال الدراسات البيئية وقضايا التغير المناخي في العالم العربي.
حتى عندما لا يكون تغير المناخ هو السبب المباشر للصراع، فإنه قد يفاقم ويوسع نطاق الظروف الأساسية للعنف. وبالتالي، يتجذر البحث البيئي في العالم العربي في فهم العلاقات المتشابكة بين الفقر الاجتماعي والاقتصادي، والضعف البيئي، والعنف [3]. وهذا يتطلب سد الفجوة بين الإنتاج المعرفي ومراعاة الاعتبارات الأمنية ومخاوف المجتمعات والمعضلات الأخلاقية. فتنتقل الهشاشة من التجارب اليومية للعنف والفقر والاستغلال إلى الهشاشة الأشمل للعالم العربي كجزء من شبكة الاستغلال الرأسمالي والمصالح الإمبريالية والتراتبية المحلية.
إن التباين في المواقف بين مختلف أصحاب المصلحة المحليين والدوليين يعقد عمل الباحثين العرب. على مستوى الدول، يصعب العمل في “فضاءات منزوعة السياسة” أثناء التنقل بين القيود الأمنية، ومواجهة محاولات الغسل الأخضر والأجندات البيئية المسيسة. من الصعب أيضًا التواصل الفعال مع المجتمعات المحلية ميدانيًا وشرح كيف أن عملنا لا يعطي الأولوية للخطاب البيئي على حساب احتياجاتهم وسبل عيشهم.
في قلب المنطقة العربية، يتكشف صراع صامت بعيدًا عن العناوين الرئيسية؛ الإشكالية هنا ليست فقط مواجهة أخطار تغير المناخ، ولكن أيضًا مواجهة الحواجز غير المرئية التي تعيق فهم وتحليل وتفسير التغيرات المناخية ذاتها. يبحر الباحثون والصحفيون، مسلحين بعزمهم وخبراتهم، في متاهة من التحديات أثناء سعيهم لتسليط الضوء على الأزمات البيئية واثار التغيرات المناخية التي تعيشها المجتمعات المحلية بالمنطقة [4].
أولًا، التمويل، والذي يُعد موردًا اساسيًا، غالبا ما يتجه نحو جهود التخفيف من آثار التغير المناخي [5]، تاركًا استراتيجيات التكيف تكافح للبقاء. يصاحب التمويل اتجاهات وأجندات تُعيق الطبيعة المستقلة والنقدية للسعي وراء المعرفة بتحديدها للتوجهات المعرفية وحجم الإنتاج المعرفي. حيث غالبًا ما تُعزز المصالح الغربية هذه التوجهات، مانحةً الأفضلية لرفاهية بعض الأشخاص على حساب الأغلبية.
ثانيًا، حتى عندما ينجح الباحث في العمل “بشكل مستقل”، يظل التهديد الأشد شراسة غير مرئي: تقييد تبادل المعلومات والبيانات البيئية الهامة. هذا الاخفاء لا يؤثر على الابتكار فحسب، بل يؤثر أيضًا على جودة أبحاث أزمة المناخ. فالسعي وراء دراسات دقيقة، مستندة إلى معايير الجودة للعمل الميداني الشامل والوصول غير المقيد إلى البيانات الحكومية، يتحول إلى مهمة شاقة [6]. وبالتالي، يصبح صدى هذا التقييد في أروقة الجامعات ودور الإعلام سردًا لتجارب محبطة.
في قطاع أبحاث المياه، على سبيل المثال، نرى قصص ومحاولات خيالية للوصول للبيانات المحدثة والشفافة حول استدامة المياه الجوفية وجودة المياه وعمليات تشغيل منشآت التحكم في إدارة وتوزيع المياة. تضيف الطبيعة المبهمة لسياسات تقاسم المياه الوطنية وتوزيع والنفاذ للمياه طبقات من التعقيد إلى لغز معقد بالفعل. يضاف الي ذلك تقييد استخدام الأجهزة البحثية الحقلية، مثل الطائرات بدون طيار، لتحليل النظم البيئية المتنوعة – من الأعماق الصاخبة تحت البحار إلى التدفقات الهادئة للأنهار والبحيرات. تؤدي هذه القيود الي وصول محدود إلى البيانات، وترفع جدرانًا غير مرئية حول إنتاج المعرفة يصعب تجاوزها في كثير من الحالات.
من البيانات التي يصعب الحصول عليها تفاصيل بناء خطط التنمية الوطنية وتقييمات الأثر البيئي للمشاريع الكبرى. الصعوبة لا تكمن فقط في الوصول إلى البيانات التي أنتجت عبرها تلك الدراسات، ولكن أيضًا في الشفافية والحق في مراجعة القرارات التي تشكل مستقبل الأمم. يُبرَّر حجب المعلومات بالخوف من التفسير الخاطئ للبيانات وإثارة الذعر العام، خصوصًا في قضايا حساسة مثل جودة المياه والهواء. هذا النهج الأبوي المضاد للفعالية يؤدي إلى نتائج عكسية، كزيادة عدم ثقة الجمهور في مؤسسات الأبحاث الوطنية وخلق فجوة تسمح بانتشار المعلومات المضللة. تتنوع أشكال حجب البيانات من توجيهات “عدم مشاركة البيانات” الصريحة إلى استراتيجيات أكثر تعقيدًا لتأميم البحث العلمي وإعطاء الأولوية لمراكز الأبحاث التابعة للوزارات على حساب المؤسسات الأكاديمية المستقلة. هذا لا يشوه ساحة البحث العلمي فحسب، بل يغرق جودة البيانات في بحر من عدم الكفاءة وسوء إدارة البيانات في ظل غياب سياسات موحدة.
أيضا نلاحظ وجود تقسيم تراتبي بين الخبراء المحليين والدوليين، حيث يُفضل “الاستشاريون” أو “الخبراء” غالبًا بناءً على جنسيتهم وامتيازهم الدولي. قدرة الخبراء الدوليين الاسهل على الوصول إلى البيانات تؤثر على الفجوة الناتجة عن تقييد وصول الباحثين العرب لتلك البيانات، مما يؤدي إلى ظهور دراسات قد تكون، في غياب سياق محلي شامل وعملية تحليل بيانات دقيقة، متطرفة أو مضللة في التعامل مع العالم العربي. هذا الوضع يمهد الطريق للتحليلات المتحيزة لتصبح القاعدة بدلاً من الاستثناء.
هذا النهج المجزأ لا يعيق فقط نزاهة البحث العلمي، بل يعرقل أيضًا كفاءة التخطيط الحكومي وتنفيذ المشاريع بالشكل الامثل، مما يتسبب في تسارع المسؤولين للحصول على البيانات الموحدة الضرورية لاتخاذ قرارات مستنيرة. النتيجة هي مشهد يجعل البحث عن المعرفة ليس فقط تحديًا، بل انعكاسًا لمطالب عامة أوسع نطاقًا من أجل الشفافية والثقة والحقيقة في معركة المنطقة العربية ضد آثار التغير المناخي والأزمات البيئية.
معالجة القضايا البيئية في المنطقة العربية تتطلب فهمًا دقيقًا يتجاوز الروايات المبسطة، ويُعد دعم البحث العلمي في هذا المجال أمرًا بالغ الأهمية. ولكن تواجه المنطقة تحديات في تعزيز حوارات وسياسات محلية قوية لمعالجة أزمة المناخ بفاعلية بسبب المجال المحدود للمناقشات العلمية وميلها للتوافق مع المواقف الرسمية دون استكشاف كاف لوجهات نظر بديلة أو حلول محلية.
تطور سياسات تغير المناخ في العالم العربي يعكس تفاعلًا معقدًا مع التأثيرات العالمية، لكن هناك حاجة ملحة لأن تكون هذه السياسات متجذرة أعمق في السياقات المحلية وبناء علي الأدلة العلمية. التركيز على الطاقة الشمسية، على سبيل المثال، يمثل جهدًا نحو التنمية المستدامة رغم توجيه معظمه للتصدير لأوروبا وليس للانتقال المحلي نحو الطاقة النظيفة، كما أنه يتزامن مع استثمارات مستمرة في صناعات الوقود الأحفوري، [7] مما يبرز التوترات داخل نهج المنطقة للانتقال إلى الطاقة النظيفة والمتجددة.
يُظهر هذا التحدي الأوسع نطاقًا الحاجة لسد الفجوة بين اعتماد النماذج الدولية وتطوير ووضع استراتيجيات سليمة علميا وذات صدى ثقافي محلي على حد سواء. إذ تتمتع المنطقة العربية، بتنوعها الغني وسياقاتها البيئية الفريدة، بالقدرة على قيادة حلول مناخية مبتكرة مصممة خصيصا لتلبية احتياجاتها وواقعها الخاص [8]. ويتطلب المضي قدما تعزيز الحوار العلمي المفتوح والمتكافئ، ودعم البحوث، وتطوير السياسات التي تعكس بصدق تطلعات واهتمامات شعوبها، وضمان مستقبل مستدام للجميع.
واضح أن المنطقة العربية، وهي تقف على حافة الاضطرابات البيئية، تحتاج أن تتبنى انتقالًا عادلًا يعالج التحديات الأساسية في إمكانية الوصول إلى البيانات والافتقار إلى المشاركة العلمية والعامة الفعالة، والحاجة الماسة لتجاوز استنساخ استراتيجيات المناخ الغربية. إن حجر الزاوية في رحلة الإنتقال يجب أن يكون إطلاق مبادرة إقليمية لتبادل البيانات، معززًا بالدعم الدولي لفتح عصر جديد من الشفافية والتعاون.
لكن التغيير لا ينحصر في توفير البيانات؛ بل يتطلب أيضًا إيجاد فضاءات عامة تلتقي فيها أصوات متنوعة من الفئات – من العلماء المحليين والدوليين، إلى صانعي السياسات، النشطاء، والقادة الشعبيين – لنقاش القضايا المناخية الملحة. هذه المناقشات ستُسلط الضوء ليس فقط على التحديات المتعددة الجوانب، بل ستُطور أيضًا حلولًا مبتكرة تستند إلى العمل الجماعي والتعاون والتنظيم المحلي. من خلال دمج الخبرات المحلية في قلب عملية صياغة السياسات، يمكن للمنطقة العربية ضمان ألا تعكس سياساتها بشكل مفتعل نماذج غير ملائمة من الشمال العالمي، بل تُعبر عن التنوع العربي الغني والاحتياجات المحلية والرؤى العلمية وتطلعات المجتمع.
مع إعادة بناء سردية التغير المناخي داخل المنطقة، تبرز فرصة حاسمة للمساهمة الفعالة في جهود التغير المناخي العالمية، مع التأكيد على نهج شامل وعادل يرتكز بعمق على البيئات الطبيعية والمجتمعية المتنوعة في المنطقة. رغم التحديات، هذا المسعى يفتح آفاقًا لمستقبل يدمج بسلاسة الاستدامة البيئية بالعدالة الاجتماعية، دافعًا بالمنطقة نحو انتقال عادل. يمثل التضامن والتعاون بين الباحثين البيئيين أمر ضروري أيضا لتجاوز العقبات المتعلقة بإمكانية الوصول إلى البيانات والتعامل الأمني مع الأبحاث، وضمان سلامة الخطاب البيئي ضد الغسل الأخضر والتسييس، خصوصًا تحت ضغوط دولية.
تزايد العنف المرتبط بتغير المناخ وآثاره البارزة في العالم العربي يؤكد على الحاجة إلى نهج جماعي عربي يركز على حرية تبادل البيانات، والبحث الدقيق، وتجنب السرديات المبسطة من أجل استراتيجية مستنيرة وممثلة للواقع لمواجهة التغير المناخي.
المراجع
[1] Eskjær, M. F. (2017). Climate change communication in Middle East and Arab countries. In Oxford Research Encyclopedia of Climate Science.
[2] Hamouchene, H. (2023). Dismantling Green Colonialism: Energy and Climate Justice in the Arab Region. Pluto Press.
[3] Thomas, E. (2024). Land, livestock and Darfur’s ‘Culture Wars’. MER issue 310 “The Struggle for Sudan”. Retrieved from, https://merip.org/2024/04/land-livestock-and-darfurs-culture-wars/
[4] Watson, C., & Schalatek, L. (2020). Climate Finance Regional Briefing: Middle East and North Africa. Climate Finance Fundamentals, (9).
[5] El-Adawy A., & El Nour S. (2022, August 1). Before COP: On the importance of adaptation in Africa. Mada Masr. Retrieved from https://is.gd/C5a9F8
[6] Bakr, A. (2022, March 9). IPCC experts say climate research funding for Egypt, Africa insufficient to adapt to threats of climate change. Retrieved from https://is.gd/1k9Ub8
[7] Wehrey, F., Dargin, J., Mehdi, Z., et al. (2023). Climate Change and Vulnerability in the Middle East.
[8] El Adawy, A. (2023). The Arab Gulf and Climate Change: Massive Steps or Greening Non-negotiable Fossil Fuel Revenues.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر المؤلفين فقط ولا تعكس بالضرورة آراء جهات عملهم أو جهة النشر*
0 تعليق
اترك تعليقاً