سارة زايد
أُنتجت هذه المادة ضمن “ورشة الكتابة الصحفية عن القضايا البيئية وتغير المناخ في العالم العربي” بالتعاون بين شبكة تنمو ومؤسسة جرينش وبتمويل من مؤسسة فريدريش إيبرت. الآراء الواردة في هذه المادة تعبر عن كاتبها وليست بالضرورة تعبر عن الجهات المنظمة والداعمة لورشة الكتابة.
بعد زيارتي لـ المدينة الغارقة هرقليون، من خلال الغوص في بحر الأسكندرية، لرؤية آثارها وبقايا قصر كليوباترا، تساءلت عن إمكانية أن يواجه التراث المعماري بالأسكندرية المصير نفسه، فيصبح الغوص الطريقة الوحيدة لأحفادنا للوصول إلى مبانيها العريقة التي أزورها اليوم سيراً على الأقدام، وذلك مع ارتفاع مستوى سطح البحر الأبيض المتوسط.
كانت تحمل هرقليون أهمية تجارية في القرن السادس قبل الميلاد، كونها ميناء هاماً على البحر المتوسط. أشاهد النقوش الفرعونية لمعبد هرقليون وهو مغمور في قاعة متسائلة، هل يحق القول أن هذه البقعة من الأرض هي قاع البحر؟
مرّ غرق مدينة هرقليون بمرحلتين، لكن السبب واحد، زلزالان بجزيرة كريت تسببا بضرب تسونامي للمدينة، عامي 365 م و1303م.
التسونامي أغرقها بما عليها من مباني، وتسبب بضحايا بشرية تقدر بحوالى 50 ألف شخص من سكان المدينة، إن لم أرى تلك المدينة بعيني كنت سأرجح بأنها أسطورة، والآن أتساءل عن إمكانية أن تصبح المدينة التي أسكن بها وتحمل كل ذكرياتي مثل هذه الاسطورة المحققة، مع اختلاف سبب تحقيقها.
الشكل 1: خريطة مواقع بعض الأماكن الأثرية بالإسكندرية
أحاول الخروج إلى سطح الأرض بتذكري لمدينة الإسكندرية. فأرى نفسي أسير في خريطة الإسكندرية، بين المبانى التراثية في ظلمات عمق البحر، المياه تخترق مقابر كوم الشقافة، المقبرة التي تحمل مزيج بين المعالم الرومانية واليونانية والفرعونى، بسبب فيضان عام 2015، مع التآكل الملحي للجدران وزيادة الرطوبة، ألاحظ اختفاء عناصر معمارية زخرفية مأخوذة من الفن المصري القديم.
الشكل 2: الجدران مشبعة بالرطوبة والملوحة والطفيليات في مقابر الأنفوشى.
ثم أذهب إلى مقابر الأنفوشي التى ترجع للعصر البطلمى. لأراها تعاني من ارتفاع منسوب المياه والأمطار في بعض حُجر المقابر، وإن اقتربت أكثر من ساحل البحر، أجد قلعة قايتباي التي تعود للعهد المملوكي، يحيط بها البحر من ثلاث جهات، حيث بناها السلطان قايتباي لحماية المدينة من التهديدات من قبل الدول العثمانية، ولكن ما يهدد المدينة الآن هو البحر، وستكون من أول ضحاياه هي القلعة.
ارتفاع مستوى سطح البحر، يتسبب في تآكل الجسم القلعة، كما أحدثت الأمواج ثقباً في جدارها الشمالي، إضافة إلى تسرب المياه المالحة إلى الطابق السفلى من خلال فتحات أثرت على الجزء الداخلي من المبنى. لكن هذا ليس مجرد خيال.
الشكل 3: الفتحة الموجودة في الجدار الشمالي للقلعة.
هل يمكن للمياه التي ترتفع شيئاً فشيئاً عبر السنين، أن تصل إلى أسطح تلك المباني العريقة؟ هل سأنجو وقتها بحياتي لاُترك بلا مدينة؟ أم سأكون من ضحايا الغرق؟ أم من ضمن الأهالي التي شردت أو خسرت وظائفها، حيث ذكر تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 0.3 متر من شأنه أن يؤدي إلى تشريد أكثر من نصف مليون نسمة، وخسارة حوالي 70 ألف فرصة عمل.
الشكل 4: (a) صورة القمر الصناعي لساحل مدينة الإسكندرية في 26 يوليو 2017
(b في 16 مايو 2021، وتآكل الخط الساحلي واضح
غرق الاسكندرية ليس أسطورة محققة، بل واقع تم انكاره. بلغ معدل ارتفاع مستوى البحر السنوي في الإسكندرية 3.1 ملم / سنة على مدى العقدين الماضيين، بحسب مجلة العلوم الهندسية بجامعة أسيوط، ويمكن رؤية تأكل الخط الساحلي للمدينة على الخرائط.
ومن المتوقع زيادة في هذا المعدل، فبحسب الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في الولايات المتحدة، سيرتفع متوسط مستوى سطح البحر العالمى بمقدار 2.5 متر بحلول عام 2100، مما يؤدي إلى غرق الكثير من المواقع الأثرية في الإسكندرية.
أما السبب الغير مباشر هو أن احتمالية حدوث كوارث مثل الزلازل والفيضانات وغيرها من الكوارث الطبيعية التي يزداد معدل تكرارها بسبب التغيرات المناخية. بالمقارنة بين ما حدث لهرقليون وما يحدث للأسكندرية، نجد ان الاثنان تعرضا لخطر الكوارث الطبيعية، إلا أن الاحتباس الحراري لم يكن موجوداً في القرن الرابع، والتسونامي الذي أغرق المدينة القديمة لم يكن من صنع البشر.
الشكل5: نسبة المناطق التراثية المغمورة بالمياه في ظل سيناريوهات ارتفاع منسوب البحر المختلفة (%)
هناك سيناريوهات مختلفة لزيادة منسوب البحر وتأثيره على تلك المناطق. السيناريو الأول، بين عام 2046 -2065، يتوقع المختصّون ارتفاع منسوب البحر 0.30 متراً، ليتحول ثقب قلعة قايتباي إلى إنهيار 21% من مبنى القلعة.ليحرم أحفادنا من زيارة واحدة من أهم معالم الإسكندرية.
السيناريو الأول: ارتفاع مستوى البحر 0.30 متر بين عام 2046 -2065
الشكل 6 : مناطق دراسة التراث الثقافي في ظل سيناريوهات مختلفة على ساحل الاسكندرية
السيناريو الثاني، عام 2081 – 2100، يتوقع المختصّون ارتفاع منسوب البحر 0.63 متراً، وهنا ستبدأ المياه بالوصول إلى قصر رأس التين الذي عاصر أسرة محمد على.
السيناريو الثاني: ارتفاع مستوى البحر 0.63 متر بين 2081 – 2100
الشكل 7 : مناطق دراسة التراث الثقافي في ظل سيناريوهات مختلفة على ساحل الاسكندرية
أما السيناريوهين الأعنف، هما أن يصل ارتفاع المياه ل 1.32 متراً بين 2081 – 2100، و 2 متر بعد ذلك، هنا ستغمر المياه أجزاء كاملة من المباني التراثية، وبهذا نقترب من مصير مدينة هرقليون الغارقة.
السيناريو الرابع: ارتفاع مستوى البحر 1.32 متر بين 2081 – 2100
الشكل 8 : مناطق دراسة التراث الثقافي في ظل سيناريوهات مختلفة على ساحل الإسكندرية
السيناريو الخامس: ارتفاع مستوى البحر 2 متر بعد عام 2100
الشكل 9 : مناطق دراسة التراث الثقافي في ظل سيناريوهات مختلفة على ساحل الاسكندرية
سيناريوهات مختلفة لمحاولة تخيل ما لا يمكن تخيله، التهام الأمواج لتراثنا الثقافي، لتبعده عن أنظارنا. يمكننا أن نجعل الماضي، والذي لم يكن في مخيلة أجدادنا، انعكاس على مستقبلنا ومستقبل أحفادنا. افهل سننتظر أن يحيل الخيال واقعاً ملموساً لكي نصدقه، أم نصدق مدى قربه منا ونعمل جاهدين لإبعاده عنا؟
0 تعليق
اترك تعليقاً