نحو إنتقال عادل في القطاع الزراعي بشمال أفريقيا

صقر النور

ملخص

تهدف هذه الورقة لفهم وتحليل محددات وصعوبات الانتقال العادل للقطاع الزراعي في مصر وتونس والمغرب والجزائر وامكانات بناء هذا الانتقال العادل للزراعة ارتكازا علي المقومات المحلية والتبادل والتعاون بين صغار الفلاحين ومنظماتهم والفاعلين الاجتماعيين بتلك الدول. تبدا الورقة بتحليل واقع السياسات الزراعية الوطنية في دول الدراسة وتحولاتها، مع التركيز على علاقات القوى على المستوى المحلي والدولي وموقع هذه الدول في الاقتصاد السياسي العالمي للغذاء. بعدها نتناول مسائل التبادل البيئي غير المتكافئ والدين البيئي والمناخي المستحق لدول المنطقة قبل ان تعرج الدراسة الى طبيعة الممارسات و المؤسسات والشبكات الداعمة للانتقال العادل للزراعة. وتخلص الورقة ان الانتقال العادل للزراعة بشمال أفريقيا يتطلب ان يكون مبنيا علي الاستقلال الذاتي وانهاء التبعية وانهاء تهميش صغار الفلاحين وتخفيف حدة التغيرات المناخية والتكيف مع اثاراها عبر اعادة بناء النظم البيئية الزراعية المحلية ووقف التدهور البيئي.

  1. المقدمة

مع كل تقرير جديد من تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ يزيد التشائم حول مستقبلنا المناخي الذي يبدو انه يسير من سيء الي اسوا.  أفريقياتشهد منطقة دول شمال أفريقيا حالة من الهشاشة في مواجهة التغير المناخي والازمات البيئية بشكل عام والتي تمثل واقع يومي لملايين البشر بالمناطق القاحلة وشبه القاحلة والصحراوية. خلال العقود القليلة الماضية تواصلت معدلات الجفاف ودرجات الحرارة  في الارتفاع إلى أعلى معدلاتها، مما يؤدي إلى تسارع التصحر.  كما تعاني المنطقة أيضًا من ندرة شديدة في المياه وتدهور جودة الأراضي وحجم الثروة الحيوانية. هذا التسارع للأزمة البيئية له آثار مباشرة وغير مباشرة على الزراعة والرعي وصيد الأسماك ، ويزيد من انعدام السيادة الغذائية في المنطقة . من الجدير بالذكر  أن سكان الريف وصغار المزارعين وعمال وعاملات المزارع هم من الفئات الأكثر فقرا والأكثر تضرراً من الأزمات الزراعية-البيئية. علاوة على ذلك ، فإن سكان الريف يمثلون  حوالي 52٪ من إجمالي سكان شمال أفريقيا.

من ناحية أخرى, منطقة شمال أفريقيا تنفث قدر ضئيل جدا من غازات الاحتباس الحراري حيث ساهمت القارة الافريقية مجتمعة عام 2017 بحوالي 4% من انبعاثات ثاني اكسيد الكربون عالميا وبلغ معدل الانبعاثات لكل افريقي حوالي 0.9 طن سنويا وهو الاقل عالميا.. في دول شمال أفريقيا تساهم مصر بحوالي 0.6% والجزائر 0.5% وتونس 0.1 % والمغرب 0.15% من الانبعاثات العالمية. وتظهر دراسة حديثة  ان المسئولية التراكمية للشمال العالمي عن اطلاق غازات الاحتباس الحراي تمثل 90% في حين يتحمل الجنوب العالمي المسئولية عن 10% فقط ومع ذلك تتحمل تلك الدول اعباء كبيرة لهذه الظواهر وهي في امس الحاجة الى انتقال عادل لتخفيف حدة التحولات البيئية والتكيف مع نتائجها.

ولا تتاثر الزراعة سلبا بسبب التغيرات المناخية وتدهور الموارد الطبيعية فقط ولكنها ايضا مصدر للانتبعاثات حيث تسبب الزراعة واستخدامات الاراضي وادارة الغابات في اجمالي نحو 23% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بين 2007 و 2016  نتيجة هيمنة نظم غذاء عالمية راسمالية في القطاع الزراعي. هذه النظم الغذائية عالية الانبعاثات ومنخفضة القدرة علي التكيف مع التغيرات المناخية تهيمن ايضا علي دول شمال أفريقيا كما سنوضح لاحقا من هنا تنبع أهمية مناقشة امكانات ومعوقات الإنتقال العادل للقطاع الزراعي في المنطقة.

جدول رقم ( 1) : بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية و الديموغرافية بشمال أفريقيا

المغربتونسمصر الجزائرالمؤشر
12,211,711,514,2حصة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي (%)   (2020)
33142110نسبة العاملة في القطاع الزراعي  (2020)
242 (العالم) 1907 (اوروبا)– 797 (العالم) 95(اوروبا)– 8750 (العالم)

– 1070 (اوروبا)

– 9063 (العالم)

– 2815 (اوروبا)

الميزان التجاري للأغذية الزراعية (بالمليون دولار) مع العالم / مع اوروبا   (2017) *
7,52, 62, 97, 5الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة (مليون هكتار ، عام 2018)
4,6 (2011)3,9 (2013)100%3,2 (2017)٪ الأراضي المروية من إجمالي الأراضي الزراعية
13,53,658, 611,5سكان الريف (بالملايين)  2020
36305726٪ نسبة السكان الريفيين لجملة السكان 2020

Source: World bank data 2021; *O. Bessaoud, J.-P. Pellissier, J.-P. Rolland, W. Khechimi. Rapport de synthèse sur l’agriculture en Algérie. [Rapport de recherche] CIHEAM-IAMM. 2019.

شهد القطاع الزراعي في  بلدان شمال أفريقيا تحولات كبيرة في العقود الاخيرة. يوضح الجدول رقم (1) ان حصة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الاجمالي منخفضة. سجل الميزان التجاري عجزا  في الدول التي شملتها  الدراسة  فيما عدا المغرب وتونس مع أوروبا (انظر جدول 1). ورغم انحسار حصة القطاع الزراعي من الناتج العام الاجمالي في هذه الدول الا ان القطاع الزراعي لايزال يمثل مصدر اساسي للتشغيل  خاصة في مصر والمغرب كما ان نسبة السكان بالمناطق الريفية لاتزال كبيرة رغم التحولات التي تشهدها الارياف من تحضر. خلال العقود الاخيرة تشهد دول المنطقة ايضا إرتفاعاً في معدلات الفقر الريفي وسوء التغذية وزيادة التفاوت الاجتماعي

لمكافحة الجوع والتكيف مع تغير المناخ والازمات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها قطاع الزراعة والعاملون وسكان الارياف، هناك  ضرورة إلى  انتقال اقتصادي اجتماعي وبيئي في القطاع الزراعي. مثل العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، في السنوات القليلة الماضية طرحت المعارف المحلية ، الزراعة البيئية والتجديدية، ونظم الغذاء المحلية كحلول لأزمات النظم الغذائية والزراعية والبيئية المهيمنة في شمال أفريقيا. ومع ذلك ، فإن هذه الديناميكيات الجديدة  لم  يجر توثيقها أو دراستها بالقدر الكافي ، وهناك نقص في تكوين صورة عامة حول هذه التطورات في الممارسات والشبكات المختلفة الداعمة لها. ياتي هذا النقاش ايضا في ظل تنامي النقاشات حول الإنتقال العادل والتساؤلات حول امكانات ومحددات الإنتقال  العادل في القطاع الزراعي في دول شمال أفريقيا .ويعبر مصطلح الإنتقال العادل عن مجموعة من المبادئ والعمليات والممارسات التي تؤسس تحولًا من الاقتصاد الاستخراجي إلى الاقتصاد البيئي منخفض الكربون دون ترك أي بلد يتخلف عن الركب. ظهر مفهوم الإنتقال العادل بداية عبر النقاشات بين الحركة البيئية والحركة العمالية في امريكا الشمالية ثم تطور في التسعينات كمفهوم مرتبط بالعمال ليعبر عن ضرورة خلق عمل لائق ووظائف خضراء،  واعتمدته منظمة العمل الدولية وقد سلط الضوء عليه في اتفاقية المناخ بباريس. لكن في  الآونة الاخيرة أصبح المفهوم أكثر شمولا ا يدمج الابعاد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية ليس فقط داخل نطاق الدولة القومية ولكن علي المستوي العالمي..

هذا التعريف الأوسع والأكثر جذرية لـ “الإنتقال العادل” يفتح المجال لنقاشات حول إعادة هيكلة اجتماعية واقتصادية طموحة تعالج جذور عدم المساواة في القطاعات المختلفة كما انه يفتح المجال ايضا  للاشتباك مع قضايا النوع والطبقة و الجندر وايضا مناهضة الاستعمارية باشكالها المتعددة في علاقتها مع الإنتقال نحو عالم منخفض الكربون.  في هذا السياق ، نناقش تحديات ومقومات وملامح الإنتقال العادل للزراعة في شمال  أفريقيا.

تهدف هذه الورقة إلى معالجة هذه المسائل من خلال تقييم ومقارنة تحولات السياسات الزراعية في الجزائر ومصر والمغرب وتونس وامكانات بناء انتقال عادل وبيئي للزراعة. نفترض بأنه من المهم أن تشمل مناقشتنا لفهم دقيق لواقع السياسات الزراعية الوطنية وتحولاتها، الجهات الفاعلة الرئيسية في القطاع الزراعي مع تحليل علاقات القوى على  المستوي المحلي والدولي وموقع المنطقة في للاقتصاد السياسي العالمي.  هذه الورقة ثلاثة أقسام ، أولها يقوم بدراسة وتحليل السياسات الزراعية والمحددات الهيكلية للتنمية الزراعية بالمنطقة في حين يناقش  ثانيهامسألة الدين البيئي والمناخي واثار عمليات التبادل البيئي غير المتكافئ على حالة الموارد الطبيعية وفرص التنمية بالمنطقة. وثالثها  يناقش الممارسات الفعلية للزراعة البيئة والتجديدية والمبادرات المحلية وشبكات الفاعلين من اجل بناء تحول عادل للزراعة بشمال أفريقيا.

  1. حولات السياسات الزراعية بشمال أفريقيا

نحاول في هذا القسم تقديم قراءة تحليلية للتحولات في النفاذ للموارد والسياسات الزراعية في دولة مابعد الاستعمار وواقع القطاع الزراعي والمجتمعات الريفية والموارد الطبيعية في بلدان المنطقة. يمكننا ذلك من فهم تحولات الاقتصاد الزراعي والسياسات الزراعية في دول المنطقة وتحولات نموذج التنمية المهيمن. لا نقدم هنا مقارنة تفصيلية ولكن قراءة متقاطعة لبعض القرارت والسياسات المركزية التي احدثت نقلات نوعية في بنية السياسات الزراعية بدول شمال أفريقيا.

  • النفاذ للاراضي والمياه في دولة مابعد الاستعمار

كانت المسألة الزراعية والنقاشات حول المستقبل الاقتصادي والاجتماعي حاضرة اثناء النضال ضد الاستعمار وفي اعقاب تحقيق التحرر الوطني.مع نهاية الحقبة الاستعمارية اتخذت الدول المختلفة مسارات متعددة لادارة مواردها الزراعية وميراثها الاستعماري. ومثلت المسألة الزراعية الموروثة  عن الاستعمار  لدى اغلب القوى  الوطنية موضوعا سياسيا حاسما مع ميلاد دول مابعد الاستعمار. لذلك شهدت السنوات 1950-1970 تحولات حاسمة في مسار السياسات الزراعية وواقع المجتمعات الريفية في بلدان شمال أفريقيا حيث طبقت كل من الجزائر ومصر وتونس والمغرب نماذج متعددة من  الاصلاح الزراعي .

في الجزائر اعتمدت  جبهة التحرير الوطني  الإصلاحات الزراعية  المستندة على  التسيير الذاتي و الثورة الزاعية  المطبقة غداة الاستقلال (1962). عززت هذه السياسات التنمية  الريفية وسهلت  النفاذ للأراضي لصغار الفلاحين و الفلاحين دون أرض، علاوة على تقديم الدعم الاجتماعي والفني لهم  كذلك  أعيد توزيع 250 الف هكتار على قدماء المجاهدين من خلال تجميعهم في 250 تعاونية فلاحية انتاجية . وُزِّعت اراضي المستعمرين   على 2200 مزرعة وكان معظمها كبير  بمتوسط 1000 هكتار وباجمالي مساحة 2.5 مليون هكتار. وخلال السبعينيات ، أممت ممتلكات الأراضي التي لم يزرعها أصحابها ، و  وقُيّدت حيازات الأراضي الكبيرة.

 في المغرب احتلت المسألة الزراعية مكانة أساسية في الإدارة السياسية للمجتمع. كان هاجس التحديث الزراعي حاضرا منذ الاستقلال وفي عام 1962 تأسس المعهد الوطني للبحث الزراعي، لتحديث القطاع الفلاحي وإعداد فلاحة ناجعة مرتكزة على الابتكار والتجديد. تحت ضغط النقاشات التي طرحها نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، وحزب الاستقلال في البرلمان، اقرت الحكومة قوانين الاصلاح الزراعي في عام 1963 لاسترجاع اراضي المستعمرين  على مرحلتين تنتهيان عام 1973. وفي عام 1969  قرّر ميثاق الاستثمارات الفلاحية، وفي عام 1972 اقر القانون المتعلق بمنح الفلاحين أراضي فلاحية من ملك الدولة الخاص، وبعده القانون المتعلق بالتعاونيات الفلاحية المؤسَّسة بين الفلاحين الممنوحة لهم القطع الأرضية المحدثة في العقارات الجماعية القديمة. وقد مثل القطاع الاستعماري في المغرب أكثر من مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة.  قام النظام الملكي بإعادة توزيع الأراضي التي كانت  بحوزة الاستعمار الفرنسي على النخب الريفية لتأمين سلطته وشراء ولاءاتها  للمخزن. كما استثمرت الدولة بشكل اساسي في بناء السدود ومشاريع ري واسعة النطاق وتنمية طبقة جديدة موالية من المزارعين المتوسطين. ومع ذلك ظل نظام التحكم في الاراضي مسيطر عليه من الدولة  ويُستخدم كأداة لشراء الولاءات وخفض توتر او احتجاج المجموعات التي لا تملك اراضي.

في تونس بعد ثلاثة سنوات من الاستقلال، وعبر قانون 48 بتاريخ 7 مايو 1959 قامت الدولة بالاستحواذ  على العقارات الفلاحية المهملة أو  غير مستغلة والأحباسوشمل هذا القرار الاراضي المشاع وقدرت المساحة بحوالي 500 الف هكتار. وفي 12 مايو 1964 صدر  قانون تاميم الاراضي الاستعمارية وقدرت المساحة بحوالي 300 الف هكتار. قبل نفاذ هذا القانون استطاع بعض الأعيان المحليين وبعض التجار وأصحاب المهن الحرة والأعضاء النافذين في حزب الدستور (الحاكم) من شراء جزء من الأراضي الاستعمارية. نتيجة لهذه العملية تكوّن  لدى الدولة التونسية بنهاية الستينات ملكية عقارية زراعية تقدر بحوالي 800 الف هكتار بما يقارب 10% من مساحة الاراضي الزراعية بتونس . ساهمت هذه الاراضي في تدشين التجربة الزراعية التعاونية (التعاضدية) بتونس والتي لم تستمر كثيرا حيث  تفككت عام 1969 اي بعد 8 سنوات من انطلاقها. بعد ذلك بدأت تونس في التحول نحو المسار الليبرالي بشكل مبكر  بخصخصة الاراضي الجماعية عبر قانون 14 يناير 1971 وقد استفادت القيادات المحلية والمتنفّذين من هذا التشريع

وفي مصر يحتل الإصلاح الزراعي مكانة مركزية في قراءة الحقبة الأولى لنظام يوليو 1952. قام الإصلاح الزراعي باعادة توزيع حالي 343 ألف هكتار في الفترة بين 1952 و1970 أي نحو 12.5% من الأراضي الزراعية   ووزعت على 343 ألف أسرة تضم نحو 1.7 مليون فرد أي نحو 9% من سكان الريف في تلك الفترة   . ويمكن تلخيص الوضع بعد نهاية الحقبة الناصرية بأن تغيرات مهمة قد حدثت على الخريطة الطبقية والاجتماعية في القرى منذ سنة 1952 حيث فقد الكثير من كبار الملاك العقاريين والنافذين سياسيًّا جزءًا كبيرًا من أراضيهم بينما زادت المساحة المملوكة للفلاحين الصغار والمتوسطين وتحقق الأمان الإيجاري للمستأجرين وتحسنت أوضاع الفلاحين دون أرض وعمال الزراعة بشكل طفيف  . ساهمت ادوات الثورة الخضراء  التي تبنتها تلك الدول والتي تمثلت في استخدام الميكنة الزراعية والاعتماد على الاسمدة الكيماوية والمبيدات الحيوية والاصناف الهجينة من البذور في زيادة الانتاج الزراعي.

رغم تعدد اشكال ادارة الاراضي وتحقيق قدر من التنمية الزراعية الا ان النماذج التنموية التي اتخذتها دول شمال أفريقيا خلال العقدين الاولين تقريبًا بعد الاستقلال اتسمت بانها تتمركز حول تحديث القطاع والحفاظ  على المزارع الكبيرة سواء عبر ادارة الدولة او عبر التعاونيات والتي كانت شديدة المركزية والرقابة. وقد تبنت هذه الدول بدرجات مختلفة سياسات تقدمية و/او راسمالية الدولة و/او سياسات الثورة الخضراء سواء عبر الدعم التقني  والمادي او عبر دعم مستلزمات الانتاج او القيام بمشروعات ري كبيرة ودعم المعرفة الزراعية الحديثة ونشر الارشاد الزراعي وتاسيس مراكز بحثية ومدارس زراعية وبناء تعاونيات زراعية. تميزت هذه الحقبةبخطاب للدولة منحاز للتحديث والزراعة التجارية والتصديرية وتهميش الزراعة الصغيرة/العائلية والمعاشية. في نفس الوقت الذي هيمنت فيه سياسات تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالأغذية الأساسية مثل الحبوب، استمر التركيز  على المحاصيل التصديرية التي كانت تهيمن على  المزارع الاستعمارية مثل (الحوامض والكروم والخضروات والقطن والزيتون).

  • التحولات النيوليبرالية واثارها على الموارد الزراعية

منذ الثمانينيات،  بدأ  الانعطاف  نحو اسياسات الليبرالية الجديدة  لدول شمال أفريقيا  عبر تحرير السوق  بإملاء  من المؤسسات المالية  الدولية (صندوق النقد والبنك العالميين). حيث خضعت هذه الدول الى مشروطية تطبيق “توافق واشنطن”  فتدرّج تحرير التجارة الخارجية وخفض سعر العملة المحلية واحكام سيطرة السوق  بتوالي خصخصة  الشركات العمومية  والتصفية التدريجية للخدمات العامة  واعطيت الاولوية لخفض الدين العام وتقليص الانفاق الاجتماعي وخفض معدلات التوظيف في القطاع العام.

أحدثت هذه التحولات في بلدان شمال فريقيا تغييرا كبيرا في إدارة المياه والأراضي الزراعية في المناطق الريفية ؛ انسحبت  الدولة من إدارة الموارد الطبيعية وتركت مساحة أكبر للقطاع الخاص. وقد أدى ذلك إلى زيادة نفاذ شركات الاستثمار الخاصة في الزراعة واستحواذها على الاراضي والمياه، خاصة في المناطق الصحراوية الشاسعة اعتمادا  على المياه الجوفية عبر تسهيلات الحصول على الاراضي التي تقدمها الدولة لكبار المستثمرين الزراعيين.

في الجزائر،  انهيت مزارع الدولة  وقسمت إلى مزارع أصغر (10-70 هكتارًا). في عام 1987 انتقلت هذه الاراضي تدريجيا إلى أيدي  المستثمرين الزراعيين. ورافق هذا التغيير التحرك تدريجيا نحو قوانين السوق :  حرّرت اسعار مستلزمات الانتاج الزراعي منذ الثمانينات بشكل تدريجي وارتفعت اسعار الاسمدة و المبيدات والمعدات  الزراعية  ونتج عنه زيادة اسعار المنتجات الزراعية . وبعد توقيع الجزائر على   اتفاقية مع صندوق النقد الدولي عام 1994  رُفع الدعم عن جميع مستلزمات الانتاج الزراعي . في المغرب زادت حدة التحولات النيوليبرالية في القطاع الزراعي في العام 2003 حيث تم خصخصة الشركتين العموميتين اللتين كانتا تديران الجزء الأكبر من الأراضي المسترجعة، وهما شركة التنمية الفلاحية (صوديا) وشركة تسيير الأراضي الفلاحية (صوجيطا)، وتحولت ملكية 90% من الأراضي الزراعية الاستعمارية السابقة الى يد شريحة من الرأسماليين وأعيان الدولة الكبار في الإدارة والجيش والأمن. اما عن تونس فقد طبقت السياسات النيولبيرالية مبكرا قبل توقيع برنامج  التكييف الهيكلي مع البنك الدولي عام 1986. فقد اتجهت الدولة نحو توجيه الانتاج الزراعي نحو التصدير والمحاصيل عالية القيمة المضافة وتوفير التمويل للاستثمارات الزراعية وانهاء تسويق الدولة للمنتجات الزراعية . صاحب هذه السياسات ايضا انسحاب تدريجي للدولة من القطاعات الزراعية التقليدية..

وفي مصر ومنذ العام 1979  انتهجت سياسات الانفتاح الاقتصادي  وتفككت المزارع المملوكة للدولة وتم إعادة النظر في قوانين الاصلاح الزراعي وحل الاتحاد التعاوني الزراعي. ايضا اتخذت الدولة مجموعة من الإجراءات لتقليص الدعم  على الفلاحين بالوادي والدلتا مثل: تحرير اسعار توريد المحاصيل الزراعية والغاء دعم المبيدات والاسمدة والسماح للقطاع الخاص بالاتجار في مستلزمات الانتاج الزراعي .  وألغي الحد الاقصى  لملكية اراضي الاستصلاح للشركات الزراعية وتسهيلات تمكين المستثمرين من الاراضي. وفي عام 1992 صدر  قانون تنظيم العلاقات الايجارية بين المالك والمستأجر (قانون 96 لسنة 1992) والذي  انهى الامان الايجاري وتسبب في موجة من الاحتجاجات في الريف المصري. في جميع بلدان شمال أفريقيا، اهتمت الدولة بالتوسع في الزراعة الصحراوية من اجل التصدير وتوسيع تسليع اراضي الدولة وتوفيرها للمستثمرين الزراعيينمنذ التسعينيات ، كانت سياسات التنمية الزراعية في الصحراء تعتبر الحل لتوفير أو انتاج المواد  الغذائية في هذه البلدان أفريقيا  كانت سياسات التوسع الزراعي في الصحاري مدعومة من المؤسسات المالية الدولية وكانت مستوحاة من التجربة الكاليفورنية اي تكثيف راس المال والتكنولوجيا واستنزاف  الموارد المائية والارضية  من اجل انتاج محاصيل ذات قيمة مضافة عالية للتصدير.

ادت هذه التحولات  الى انهاء سياسات الاكتفاء الذاتي للغذاء من خلال توقيف دعم الانتاج المحلي  والتوجه الى سياسات الامن الغذائي والتي تعني الحصول  على الغذاء من اي مصدر سواء عبر انتاج الاستثمارات المحلية  الاستيراد  او الاعانات الغذائية. كما حدثت تحولات  كبرى في النظم الغذائية وشهدت الدول ارتفاع في امراض التغذية وزادت التبعية الغذائية واصبحت  الجزائر اكبر مستورد للقمح في العالم وتتنافس في ذلك مع مصر.

يمكن تلخيص اهم الملامح الرئيسية للنظام الغذائي-الزراعي المهيمن في بلدان   شمال أفريقيا  بعد حوالي اربعين عام من تطبيق السياسات النيوليبرالية بالنقاط التالية:

  • إلغاء دعم صغار الفلاحين وانسحاب الدولة التدريجي من كل أشكال  السند الفني والعيني للإنتاج الزراعي الفلاحي والواحي، ويتضمن ذلك تخليها عن دورها في التحكم في  العمليات والمماراست الزراعية من التسميد ونوع البذور والمبيدات مركزيًّا، وكذلك تسعير مدخلات الزراعة أو مخرجاتها وترك كل ذلك لقوى السوق، وتخليها عن دعم مستلزمات الإنتاج، وكذلك الدعم الائتماني. وإطلاق حرية القطاع الخاص في استيراد وتداول المستلزمات.
  • الترويج لنمط الإنتاج الكبير ودعم نموذج المزارع الزراعية الشاسعة، على غرار نموذج كاليفورنيا عبر استصلاح الصحراء وتسهيل حصول المستثمرين الزراعيين على مساحات شاسعة من الأراضي بالشكل الذي يعيد انتاج  الاستعمار الجديد عبر استحواذ القلة علي الاراضيويظهر ذلك بوضوح في حالات كل من المغرب ومصر.
  • تبني سياسة الزراعة من أجل التصدير، بمعنى خلق حوافز للتصدير وتقديم تسهيلات لبناء مبردات بالمطارات وأيضًا إعطاء حوافز مالية للتصدير عبر صناديقدعم الصادارت والانخراط في منظومة علاقات تجارية دولية تحقق مصالح الشمال العالمي وليس المصالح المحلية للسكان المحليين ويظهر ذلك في كل من المغرب وتونس ومصر
  • هيمنة نمط غذائي استهلاكي معولم وعالي في استهلاك الكاربوهيدراتالرخيصة محدثا ارتفاعا في معدلات الامراض المرتبطة بالغذاء وارتفاع معدلات السمنة وسوء التغذية. واستبدال سياسات الاكتفاء الذاتي من الغذاء بسياسات الأمن الغذائي بمعنى الحصول على الغذاء من أي مصدر بدلًا من إنتاجه محليا   في جميع بلدان  الدراسة.
  • الوضع الراهن : زراعة فلاحية مهمشة وزراعة راسمالية استخراجية

بعد الانحسار سياسات الرفاه  لحكومات ما بعد الاستعمار في طور  السياسات النيوليبرالية  أعيد انتاج شكل اكثر محلية من الثنائية التي كانت حاضرة في الحقبة الاستعمارية بين قطاعين زراعيين احدهما يتمتع بالتطور وبالحيازات الكبيرة ودعم السلطة والآخر يوصم بالتأخر ويلقى التهميش ويمثل زراعات صغار الفلاحين في السهول والاودية  والواحات  والزراعات المطرية.

في شمال أفريقيا تعد الزراعة قطاعا رئيسيا لتوظيف النساء حيث توظف حوالي 55 في المائة من عمالة الإناث في مقابل 23 في المائة فقط من عمالة الذكور. يزيد أعداد العمال الموسمين المهاجرين مع هجرات النساء والرجال الاقتصادية أو من جراء الحروب والنزاعات. في مصر علي سبيل المثال وفقا للتعداد زراعي لعام 2010 وصل إجمالي العمالات في القطاع الزراعي الي خمسة ملايين سيدة تعمل 40% منهن بلا اجر لدي عائلاتهن. مع نمو اشكال الزراعة الراسمالية زادت عمليات تانيث العمل الزراعي والاعتماد بشكل كبير علي الفتيات من سن صغير (يبدا احيانا من عمر 8 سنوات) في ظل ظروف عمل شديدة السوء. يطرح العمل في القطاع الزراعي إشكاليات عديدة مرتبطة بظروف العمل والمسائل الصحية وتقسم العمل محليا ودوليا وعلاقة ذلك بتمكين للنساء وتحقيق التنمية. تكتسب أوضاع عاملات المزارع أهمية خاصة في ظل اللحظة الحالية المرتبطة بالأزمة الصحية ومخاوف تكرار أزمة غذائية جديدة تزيد بعدا إضافيا الي الأزمات التي تشهدها المنطقة.

الزراعة أيضا هي واحدة أكثر القطاعات الإنتاجية خطورة في العالم. وفقًا لتقديرات مكتب العمل الدولي، يُقتل حوالي 170.000 عامل أو عاملة زراعي كل عام. وهذا يعني أن العمال في الزراعة يتعرضون على الأقل لخطر الوفاة في العمل بمقدار الضعف مقارنة بالعاملين في القطاعات الأخرى. كما أن الملايين من عمال وعاملات الزراعيين يصابون بإصابات عمل خطيرة في حوادث مرتبطة بالأدوات الزراعية أو التسمم بالمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية الزراعية الأخرى. علاوة على ذلك، بسبب قلة الإبلاغ عن الوفيات والإصابات والأمراض المهنية في الزراعة ، من المرجح أن تكون الصورة الحقيقية للصحة والسلامة المهنية لعمال المزارع أسوأ في دول المنطقة.

الاوضاع المتدهورة للزراعة بشمال افريقيا مدعومة بالعلاقات غير المتكافئة في النظام العالمي للانتاج والاستهلاك. فدول المنطقة تخضع  الى  أحد اشكال التبادل غير المتكافئ مع الشمال العالمي خاصة الاتحاد الاوربي محكومة  بالاتفاقيات التجارية التي تدعم وصول المنتجات الزراعية لدول شمال أفريقيا  الى الاتحاد الاوربي بأسعار تفضيلية للمستهلك الاوروبي وتسهل  استغلال موارد المنطقة وفارق اجر العمل في القطاع الزراعي بالجنوب واستخلاص فائض القيمة لصالح المستهلك الاوربي. يتحمل الاتحاد الأوروبي مسؤولية كبيرة عن هيمنة الزراعة التصديرية بدول المنطقة باعتباره أكبر شريك تجاري لدول شمال أفريقيا وممول رئيسي لنموذج التنمية النيوليبرالي بالمنطقة. وبالتالي يؤثر  على  سياسات التنمية وعلى  خطط التجارة والزراعة المهيمنة بالمنطقة. فالاتحاد الاوروبي يتبني شعار “التجارة من اجل التنمية   ويضغط بدعم من النخب المحلية من اجل توقيع اتفاقيات تجارية  حرة ومعمقة مع دول شمال أفريقيا تزيد من ازماتها الهيكلية

 يرى  منظرو التبعية ان الاستعمار ربما يكون قد رحل لكن نموذج التنمية للحقبة الاستعمارية ظل مهيمنا بدرجات مختلفة مكرسا  التفاوت بين الشمال والجنوب العالميين. ومع العصر النيوليبرالي لعب المستعمرون السابقون دور مركزي في ادماج اقتصاديات الدول المجاورة في الاقتصاد العالمي ومنظومة التجارة العالمية خاصة في منظومة الاتحاد الاوروبي كاطراف تابعة.  يتطلب تلبية احتياجات السوق الاوروبي التركيز  على زراعة المحاصيل الاحادية والمزارع الكبيرة والالتزام بمتطلبات الذوق العام الاوروبي في طريقة اعداد زيت الزيتون مثلا او زراعة اصناف محددة من التمور او الفراولة او الازهار او التخصص في زراعة اصناف محددة من الحمضيات.

خلقت هذه السياسات والممارسات الزراعيةوضع بيئي للقطاع الزراعي يعبر عن ثنائية اخرى. من ناحية هناك استزاف للموارد البيئية من ارض ومياه من قبل الزراعة الراسمالية التي ترتكز على تكثيف رؤوس الأموال والطاقة وتزيد هشاشة اوضاع العاملات وعمال الزراعة وزيادة التفاوت وتمركز الملكية العقارية الذي يظهر ذلك بشكل واضح في الزراعة الصحراوية حيث تخصص مساحات شاسعة لكبار المستثمرين في حين يحصل الفلاحين الصغار علي مساحات محدودة.  ومن ناحية أخرى هناك تدهور في الموارد في الواحات والمناطق الريفية  نتاج غياب دعم الزراعة الفلاحية الصغيرة. أضف إلى ذلك أن ميراث الثورة الخضراء من تكثيف الاسمدة والمبيدات والبذور الهجينة قد أدى  إلى اهمال النظم الزراعية والبيئية المحلية الموروثة مما تسبب في تدهور الموارد الطبيعية من اراضي ومياه   وفقدان التنوع الحيوي للبذور والاخلال بالتوازن في التبادل بين الانسان والبيئة محدثا ما يعرف  بالتصدع في بالتبادل المتكافئ الاجتماعي-الإيكولوجي Metabolic Rift

  1. الانتقال العادل : مواجهة التبادل البيئي غير المتكافئ

رغم اهمية مفهوم “التبادل غير المتكافئ” الذي طرحته مدرسة التبعية والذي يركز كما اشرنا على حركة قوة العمل ورؤوس الاموال.  ولفهم امكانات الانتقال العادل علينا النظر  الى  عملية التبادل البيئي غير المتكافئ وهو مفهوم اشمل ويتطلب تحديدا النظر لأربع مجموعات من الموارد: 1) المواد الخام والطاقة المستخدمة في انتاج السلع والخدمات، 2) الأرض المطلوبة بشكل مباشر او غير مباشر لانتاج تلك السلع و3) الخدمات  المستهلكة لإنتاج تلك السلع و4) العمل المنفق في سلاسل التوريد. ان مثل هذه التدفقات غير المتكافئة اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا تحد من قدرة دول الجنوب في تحقيق التنمية الذاتية.

وفي دول شمال أفريقيا يبدو جليا ان التبادل البيئي غير المتكافئ تاريخيا يركز على التبادل مع الدول الاوروبية ويتمثل في تخصيص الموارد المائية والارضية والمناخية والطاقة وقوة العمل من اجل انتاج الغذاء لاوروبا وتحميل هذه الدول التكاليف البيئية وتدمير بيئاتها المحلية واستنزاف مواردها الطبيعية وتوليد فائض من خلال التجارة الدولية للشركات الاوروبية والنخب المحلية. وهذا بدوره له آثار بعيدة المدى على استدامة الموارد والطاقة والاراضي بدول شمال أفريقيا وعلي قدرتها علي بناء سياسات للسيادة الغذائية ولتحقيق الانتقال العادل محليا. يؤدي هذا التبادل البيئي غير المتكافئ الي استدامة نمط عيش امبريالي في المراكز الراسمالية في الوقت الذي يحد فيه من فرص حدوث انتقال عادل في الجنوب . فما يتم طرحه علي انه انتقال عادل بيئيا واجتماعيا لاوروبا ليس بالضرورة كذلك للاطراف الملحقة بالقارة في جنوب المتوسط وغرب أفريقيا.

النقاشات حول الإنتقال البيئي التي تتناول فقط المراكز الراسمالية سواء من حيث ازمة نمط الانتاج او الاستهلاك الغربي او طرح التكنولوجيا كحل للأزمة البيئية (الحداثة البيئية) تتجاهل تماما واقع الكثير من دول الجنوب وامكانات ومعوقات تحقيق تحول عادل لصالحها. هذا يدفعنا  الى نقد الخطاب  الليبرالي  الذي يتم تصويره على انه عالمي في الوقت الذي يتغاضى بدرجة كبيرة عن مسائل الدين البيئي والمناخي للدول الصناعية الكبرى . ان طرح الدين البيئي كنتاج تدمير البيئة الطبيعية في شمال أفريقيا ومسالة تصدير الخضروات والفاكهة والعمالة الرخيصة الى اوروبا والتي تعمل في ظل ظروف عمل غاية في السوء كما اوضحته الدراسات حول العاملات المغربيات بمزارع جنوب اسبانيا والتكلفة الاجتماعية والاقتصادية والبيئة لهذا التبادل غير المتكافئ يجب ان تكون في مركز النقاشات حول الإنتقال العادل للزراعة بشمال افريقا. وهناك تقديرات عديدة لحجم الدين المناخي. مثلا في قمة كوبنهاجن قدرت دراسة للمعهد الدولي للبيئة والتنمية تكلفة  التغير المناخ في البلدان النامية بما يصل إلى 6.5 تريليون جنيه إسترليني على مدى السنوات العشرين القادمة. واوضحت اخري دراسة للبنك الافريقي للتنمية أن تكاليف التكيف في إفريقيا تتراوح بين 20 و 30 مليار دولار أمريكي سنويًا على مدى السنوات العشرين القادمة. اما في دول الدراسة فتعطينا مراجعة تقارير دول المنطقة حول مساهمتها دول المنطقة والتي تم تقديمها الى أمانة اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ بعد قمة باريس المناخية عن خطط خفض الانبعاثات والتكيف مع التغيرات المناخية وتصورات هذه الدولة عن تكلفة احداث هذه التغيرات. اوضحت تونس انه لتحقيق خفض في الانبعاثات بمقدار 41% بحلول العام 2030 مقارنة بمستوي عام 2010 وللتكيف مع اثار التغيرات المناخية تحتاج الدولة تمويلا دوليا وبناء قدرات ونقل تكنولوجيا يقدره التقرير بحوالي 20 مليار دولار امريكي.  بينما قدرت المغرب عن التزامها بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 42٪ وتبلغ التكلفة الإجمالية للوصول إلى هذا الهدف 50 مليار دولار أمريكي في حين حددت مصر احتياجها الي 73 مليار دولار لتخفيف اثار التغيرات المناخية دون تحديد اهداف محددة كميا ولا خططا لخفض الانبعاثات بينما اوضحت الجزائر عن خططها الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة  22٪ بحلول عام 2030 ، بشرط الدعم الخارجي من حيث التمويل وتطوير التكنولوجيا ونقلها وبناء القدرات  دون ان تحدد قيمة محددة لهذا الدعم او تكلفة التخفيف والتكيف. وهذا الرقم اقل بكثير من دعم التنمية الذي تتحصل عليه تلك الدول ومن الاعباء الاقتصادية للتغيرات المناخية لكن هذه الارقا تعبر عن شق يسير من المسئولية العالمية في تحمل اثار وتبعات التغيرات المناخية.

 

  1. آليات بناء الانتقال العادل للزراعة الشمال افريقية : الزراعة الفلاحية البيئية والتجديدية

تندمج دول شمال أفريقيا بدرجات وطرق مختلفة في النظام الغذائي العالمي المعاصر والذي تهيمن عليه الشركات عابرة الجنسيات والساعية نحو تحقيق الارباح والزراعة من اجل التجارة الدولية والتصدير. هذا النمط كما اوضحنا يتسبب في تدهور البيئات الطبيعية والموارد بشكل متسارع ويهمش صغار الفلاحين والمجتمعات المحلية.

تحتاج المنطقة اذن الى اعادة رسم سياساتها الزراعية والبيئية والغذائية وسياسات الطاقة. هذه السياسات البديلة من الضروري ان تتمركز حول الداخل وفك الارتباط مع خطط وأهداف ورؤى المركز الاوروبي.

هذا الانتقال العادل لا يهبط من السماء مثل المخططات والسياسات التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية ولكن يُبنى محليا من خلال الممارسات والنضالات اليومية للعاملين في الزراعة والناشطين والفاعلين المحليين بالمنطقة. تؤكد الملاحظات ان بعض ممارسات الفلاحين والافكار الاخذة في الانتشار في دول المنطقة تتقاطع مع مبادئ الزراعة البيئية التجديدية وتمثل بذور/لبنات الإنتقال  البيئي في القطاع الزراعي. يحدث تبني هذه الممارسات نتيجة لاسباب مختلفة منها حاجة الفلاحين الصغار لمواجهة التحولات المناخية وارتفاع اسعار المبيدات والاسمدة الكيماوية وايضا نمو قطاعات من السكان بالحضر والريف مهتمة باعادة استخدام تكنولوجيا زراعية قديمة او ابتكار افكار جديدة لمواجهة ندرة المياه وتدهور التربة وارتفاع درجات الحرارة. تمكن هذه المماراسات الميدانية والتي تحدث على  ارض الواقع نقطة انطلاق لبناء سياسات الانتقال العادل من اسفل  الى أعلى  وليس  العكس. ان الإنتقال العادل يجب ان يمكن السكان المحليين ويعيد تعريف التنمية بمضامين  تشمل المشاركة وصون وتجديد الموارد.

  • الممارسات المرصدة حول الزراعة البيئية والتجديدية والسيادة  علىالغذاء

يوضح الجدول رقم (2) بعض الممارسات المتعلقة بالزراعة البيئية والتجديدية والتي تم رصدها  عبر الدراسات التي تناولت المعارف المحلية والاصيلة المرتبطة بالمحافظة على المياه في شمال أفريقيا أو عبر الدراسات القليلة التي تناولت الزراعة البيئية والتجديدية في ثلاث دول في المنطقة المغاربية وهي تونس والمغرب والجزائر وايضا ملاحظاتي الميدانية في ريف مصر وتونس والمغرب من 2008 الى 2019 واللقاءات مع باحثين وناشطين في شبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية

توضح هذه الملاحظات والدراسات كما هو مبين بالجدول رقم (2) ان هذه الممارسات ترتبط بزيادة الكتلة الحيوية بالتربة وضمان مستوى عالٍ من المادة العضوية للتربة وتعزيز التنوع البيولوجي وزيادة التفاعلات البيولوجية والفاعلة بين مكونات النظام البيئي الزراعي لاستمرار تجددها وحفظ المنظر الطبيعي- الزراعي وصيانة الموارد المائية وتوفير المياه وتحسين سبل عيش العاملين بالزراعة وتوفير غذاء آمن وصحي ومناسب ثقافيا للسكان المحليين.

الجدول رقم ( 2) : رصد لأهم الممارسات التي تحمل امكانات الزراعة البيئية التجديدية ببلدان شمال أفريقيا

الفئةالممارسة
ممارسات حسن ادارة التربة بشكل افضل وتحسين خواصها وتخزين الكربونزراعة بلا حرث
الدورة الزراعية (تناوب المحاصيل النجيلية مع المحاصيل البقولية)
تنوع التركيب المحصولي في المزرعة
السماد العضوي غير المعالج
السماد العضوي المعالج (كومبوست)
السماد العضوي السائل (شاي الكومبوست)
السماد العضوي للدود (فيرموكومبوست)
السماد العضوي السائل للدود  (شاء فيرموكومبوست)
السماد العضوي غير المعالج
ممارسات تحسين ادارة المصادر المائيةالخطارة, الفوقارة, الماجل / القنوات المدفونة  (المغرب والجزائر وتونس)
الجسور (تونس)
زراعة اصناف بلدية
الري الليلي (مصر)
التكثيف المحصولي
زراعة المستويات الثلاث الواحية
ممارسات توفير الطاقةالعمل اليدوي
استخدام الحيوانات في العمليات الزراعية
الري الانسيابي
الري الليلي
الري بالطاقة الشمسية
ممارسات تعزيز الوقاية الطبيعية والمكافحة البيئةالمصائد البيئية
جمع الحشائش يدويا
تعدد الاصناف وعدم تكرار زراعة نفس المحاصيل بنفس قطعة الارض
ممارسات ادارة المظهر الطبيعيزراعة المدرجات (المناطق الجبلية بالمغرب والجزائر)
النظم الواحية
النظم الزراعية الرعوية المختلطة
ممارسات السيادة علي البذورانتاج البذور منزليا
استخدام البذور البلدية/المحلية

Sources : Author Fiendwork in Egypt and Tunisia, 2018 and 2010;  Ameur, et al., 2020 ; Hamamouche et al., 2018 ;  Mohammed, and Ruf, 2010; Ayeb and Saad, 2013; Boualem et al., 2011.

لا نحاول هنا اعطاء صورة كاملة بل فقط بعض المؤشرات عن وجود ممارسات مرتبطة بالزراعة البيئية والتجديدية بمناطق الدراسة. هذه الممارسات تتقاطع مع مبادئ الزراعة البيئية التجديدية لكنها لا تتجسد  بشكل متكامل. هذا يعني ان المزارعين يمزجون في احيان كثيرة بين ممارسات الزراعة البيئية مع ممارسات الزراعة الراسمالية فيتم مثلا استخدام اسمدة كيماوية مع الاسمدة العضوية او استخدام اساليب بيئية وغير بيئية في ري المحاصيل وما الى  ذلك. ولاتزال المزارع البيئية المتكاملة نادرة جدا ومحدودة العدد في شمال أفريقيا وان كان هناك تجارب بدأت  في الظهور بدعم من مبادرات ومنظمات  نشير  الى  دورها لاحقا.

يمكن ارجاع اسباب ظهور هذه الممارسات الى نتاج تفاعلات متعددة يمكن تقسيمها  الى شقين. الشق الاول هي الممارسات التي يطورها صغار الفلاحين للتحايل على الظروف البيئية او الاقتصادية الصعبة. على سبيل المثال يواجه صغار الفلاحون في مصر ارتفاع اسعار الاسمدة  الكيماوية والمبيدات باستخدام الاسمدة العضوية والمخلفات الحيوانية كما انهم يواجهون ارتفاع اسعار البذور المستوردة باستخدام البذور المحلية واعادة انتاج البذور ذاتيا وايضا يلجا الفلاحون بالمنطقة المغاربية الى استخدام اساليب بيئية في صون المياه والاستخدام الامثل لها لمواجهة ندرتها. ايضا يتم توفير الطاقة عبر التركيز على الجهد البشري. هذه الممارسات ليست نابعة بالضرورة عن تبني رؤية بيئية للزراعة ولكنها تستند على محاولات تحسين سبل عيش صغار الفلاحين واستمرارهم في عمليات الزراعة في مواجهة التوغل الراسمالي للقطاعات الزراعية الفلاحية الصغيرة وفي هذه الحالات يمكن وصف ممارسات الزراعة البيئية التجديدية بانها زراعة الفقراء البيئية agroecology of the poor  لانها نتاج التركيز على سبل عيشهم. اما الشق الثاني من الممارسات فيخصّ التحولات المرتبطة بنمو طلب محلي وعالمي على الغذاء النظيف وتوسع دوائر المعرفة والتعلم ونقل الخبرات سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي او الجمعيات الاهلية او الجهات المانحة. في القسم القادم سوف نعرض لبعض المؤسسات والهيئات الفاعلة في مجال دعم وممارسة الزراعة البيئية والتجديدية في دول شمال أفريقيا.

  • الفاعلون المحليون(تعاضديات – جمعيات – منظمات – شبكات … الخ) 

بجانب الممارسات الفلاحية التي تحمل امكانات الزراعة البيئية والتجديدية (ولكنها لا تمثل في حد ذاتها تحولا متكاملا وممنهجا نحو الزراعة البيئة) فان هناك مؤسسات اهلية وهيئات بحثية حكومية تدعم الإنتقال نحو الزراعة البيئية عبر ادوات متعددة. تدفع هذه المؤسسات نحو تشبيك الجهود لتحقيق السيادة على الغذاء والزراعة البيئية على  مستوي محلي او قطري او اقليمي. لا نحاول هنا تقديم خريطة كاملة لهذه المبادرات ولكن القاء الضوء على بعض النماذج قد يكون مفيدا لاعطاء صورة عامة.

ضمن المنظمات والهيئات المذكورة بالجدول (3) هناك من تلعب ادوار متعددة في نشر ثقافة الزراعة البيئية والتجديدية وتقديم التدريبات واحيانا الادوات والممارسات وايضا التقارير والابحاث العلمية.  في منطقة شمال أفريقيا تلعب تعاضديات صغار الفلاحين (التعاونيات) دورا مهما في دعم ممارسات الزراعة البيئية. ومعني التعاضد (وهو المفهوم المحلي بدول المنطقة المغاربية) اكثر دلالة من التعاون حيث يشتمل على التضامن والتعاون والاخوة ايضا. فهذه الاشكال المحلية من العمل المشترك والتحالفات تساعد في تحقيق المزيد من التكامل في النظم الزراعيّة البيئية عبر نشر معارف الزراعة البيئية التجديدية من خلال توفير الاسمدة العضوية وعمل دورات تدريبية في عمليات صيانة وتجديد التربة وانتاج البذور واكثارها محليا والعمليات الزراعية البيئية التي تحسن من جودة المنتجات الزراعية. فشراكات المنفعة المتبادلة، وتدوير المحاصيل، وتبادل المعلومات والممارسات كلها ضرورية لتوسيع نطاق التجربة وتعميمها. كما ان نقابات عمال الزراعة عبر مواجهتها للاستخدام المفرط للاسمدة وصحة العمال تدفع نحو  استخدام اساليب عضوية في مكافحة الافات وجمعيات الاكيلة (المستهلكين) تسمح ببناء علاقات تشاركية عبر البيع المباشر والاتحادات والدعم المتبادل في علاقات تتجاوز المفهوم الضيق للسوق والمنفعة والمصلحة.

جدول ( 3) : امثلة لبعض المنظمات والمبادرات الداعمة للزراعة البيئية التجديدية بشمال أفريقيا

المؤسسة نطاق العمل
شبكة السيادة الغذائية لشمال أفريقيااقليم شمال أفريقيا
مركز ابحاث التغيرات المناخيةمصر (مؤسسة حكومية)
جمعية الزراعة العضويةمصر
جمعية الفيوم لتنمية الزراعة العضويةالفيوم, جنوب مصر
مكتب الخدمات الإنسانيةمحافظة المنيا, جنوب مصر
الجمعية المصرية للزراعة المستدامةمحافظة اسيوط, جنوب مصر
مركز ابحاث المناطق القاحلةتونس (مؤسسة حكومية)
مرصد السيادة الغذائية والبيئةتونس
جمعية أشكال وألوان واحة AFCOواحة شننّي، جنوب تونس
مؤسسة تربةالجزائر
المزرعة الإيكولوجية التربويةمنطقة زرالدة، الجزائر
شبكة مبادرات الفلاحة البيئية بالمغرب RIAMالمغرب
مجموعات تربية الدود – انتاج سماد عضوي الدودمصر, تونس, المغرب, الجزائر
تعاضديات/تعاونيات زراعيةمصر, تونس, المغرب, الجزائر
نقابات فلاحيةمصر, تونس, المغرب, الجزائر
روابط سلة الغذاء منتجين ومستهلكين ( ربط الفلاحين بالمستهلكين بالمدن)مصر, تونس, المغرب, الجزائر
الاسواق المحلية الفلاحيةمصر, تونس, المغرب, الجزائر
نقابات العاملات بالزراعةتونس, المغرب

المصدر: جمعت من طرف الباحث عبر مقابلات ولقاءات مع فاعلين ميدانيين, 2021.

ومع ذلك ورغم النمو المتزايد للاعتراف بأهمية المعارف المحلية والزراعة البيئية التجديدية لمواجهة الازمة البيئية والتغيرات المناخية على المستوى العلمي كما اشرنا تظل هذه الممارسات غير معترف بها على نطاق واسع ومهمشة إلى حد كبير في دول المنطقة سواء في سياسات التحديث الزراعي أو في المناقشات حول تغير المناخ. كما انها تتم في الغالب في نطاق فردي (على مستوي المزرعة) او محلي (المجتمع المحلي) وبدعم من بعض منظمات المجتمع المدني وبعض المؤسسات البحثية. و لا يسمح ذلك باحداث تغير كبير في بنية السياسات الزراعية ولا بتحقيق اعادة بناء سياسات السيادة الغذائية للبلاد على اسس الزراعة البيئية التجديدية.

هناك ايضا حاجز اخر مرتبط بانتاج المعرفة العلمية حيث ان الزراعة البيئية والتجديدية هي حركة اجتماعية وممارسة زراعية ومعرفة علمية تجمع علوم الزراعة بعلوم البيئة. تهيمن افكار الزراعة الصناعية على المناهج التي تدرس بكليات الزراعة بدعم من الدولة والشركات العالمية المهيمنة على مستلزمات الانتاج الزراعي فمثلاً في مصر تمول شركات مبيدات وشركات أسمدة وشركات تقاوي المؤتمرات العلمية بكليات الزراعة. كما أن مناهج كليات الزراعة في مصر تقدم للمهندسين المستقبليين برامج تفيد بأن الهندسة الوراثية او الثورة البيوتكنولوجية هي حل أزمة الغذاء في العالم.  وذلك رغم اتساع دوائر النقاش العالمي حول فشل هذه الوعود منذ اطلاقها خلفا للثورة الخضراء منذ عام 1990)

رغم حدود هذه الممارسات وعدم انتشارها على نطاق واسع فان الملاحظات الميدانية توضح النمو المتسارع لعمليات الضغط من اسفل  لبناء السيادة الغذائية ودعم الزراعة البيئية التجديدية في جميع دول الدراسة ويمكن البناء على هذه الديناميكيات المحلية والمماراست الفلاحية للوصول الى الإنتقال العادل للقطاع الزراعي في شمال أفريقيا.

  1. الخاتمة

حاولنا في هذه الورقة القاء الضوء على التحولات الزراعية ومعوقات وفرص تحقيق  الانتقال العادل للزراعة في دول شمال أفريقيا. لايزال النظام المهيمن على السياسات الزراعية في دول المنطقة هو الزراعة الراسمالية كثيفة استعمال الطاقة وراس المال والموجهة أساسا للتصدير. هذه السياسات عاجزة عن مواجهة التغيرات المناخية والازمة البيئية كما انها عاجزة عن تحقيق السيادة الغذائية لدول المنطقة وتزيد من تهميش وافقار قطاعات كبيرة من العاملين بالزراعة وسكان الارياف. اظهرنا ديناميكيات المجتمعات الريفية ومحاولات الابتكار والتجديد وايضا المعارف المحلية لمواجهة تدهور الموراد الطبيعية وسبل عيش الفلاحين. واظهرنا تعدد ممارسات الزراعة البيئية والتجديدية التي يستخدمها المزارعون ممزوجة مع ادوات الزراعة الراسمالية وبالتالي لم يحدث تحول كامل او تبني كامل للزراعة البيئية ويمكن ارجاع ذلك بشكل اساسي الى غياب اي دعم منظم ومستدام لهذا الإنتقال على مستوى السياسات العامة الزراعية والبيئية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *