الاء عمارة
أُنتجت هذه المادة ضمن “ورشة الكتابة الصحفية عن القضايا البيئية وتغير المناخ في العالم العربي” بالتعاون بين شبكة تنمو ومؤسسة جرينش وبتمويل من مؤسسة فريدريش إيبرت. الآراء الواردة في هذه المادة تعبر عن كاتبها وليست بالضرورة تعبر عن الجهات المنظمة والداعمة لورشة الكتابة.
شعر إبراهيم بلسعة مؤلمة، بينما كان يسبح في يونيو/حزيران الماضي قبالة ساحل مدينة الإسكندرية، الواقعة على مسافة 218 كيلو متر، شمال العاصمة المصرية القاهرة. يعرف إبراهيم هذه اللسعة جيدًا؛ بسبب كثرة تعرضه لها خلال السنوات الأخيرة، مع إزدياد أعداد قناديل البحر على شواطئ المدينة الساحلية.
اعتاد الشاب الثلاثيني، هذه اللسعات، يصفه شعوره وقت تعرضه لها بقوله “وكأنّ مياه نار صُبت عليه”، وهو الشعور الذي تعرفه المصادر العلمية بأعرض لسعة القنديل، وقد تشمل: الوخز الشديد والشعور بالحرقان والحكة وآلام أخرى في البطن والظهر وارتفاع ضغط الدم.
اعتاد إبراهيم على التعامل مع هذه اللسعات بـ”رش خل وليمون على مكان اللسعة”، على حد قوله، لكنه أبدى إعجابه بمنظرها تحت سطح البحر، ويقول: “تكون مضيئة، تُشبه الأباجورة”.
القناديل كائنات تستطيع التأقلم مع ظروف بيئية مختلفة، فوجودها على الأرض منذ ما يزيد عن 500 مليون سنة سبق وجود الديناصورات- التي جابت الأرض وانقرضت منذ 66 مليون سنة- واستطاعت تجاوز “الموت العظيم“؛ أكبر انقراض جماعي في تاريخ الأرض.
ويتعرض للسعاتها سنوياً نحو 150 مليون شخص حول العالم؛ إذ يستخدم المخلوق الرخوي مجساته الطويلة، في حقن سمه لفريسته، وتتفاوت قوة سمه، من ضعيف يتسبب للبشر بالألم لبعض الوقت وحتى القوي، الذي يؤثر على أجهزة الجسم، وقد يؤدي بهم في بعض الحالات إلى الموت.
لسعات قنديل البحر ليست أصعب ما يواجه إبراهيم وسواحل مدينته، فعوامل متنوعة نتيجة التغير المناخي والصيد الجائر، جعلت البحر المتوسط موطن هجرة مثالي لأعداد أنواع دخيلة من الكائنات البحرية، ومنها قناديل البحر، الأمر الذي التنوع البيولوجي في المنطقة، ويهدد النظام البحري البيئي في المتوسط.
بيئة مثالية
لاحظ إبراهيم ازدياد أعداد القناديل خلال آخر عقدين بالقرب من سواحل الأسكندرية، بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية ( 0.74 درجة مئوية خلال آخر 100 سنة)، إلا أن منطقة البحر المتوسط، وفقًا لموقع «الأمم المتحدة للبيئة» (UNEP)؛ يرتفع متوسط درجة حرراتها مقارنة بمناطق أخرى بنحو 20%، ومع توقعات بارتفاع درجة حرارة المياه بين (1.8 – 3.5) درجة مئوية بحلول عام 2100. يصير البحر الأبيض المتوسط بيئة مثالية، لكائنات مثل قناديل البحر؛ لتفد إليه من أماكن أخرى لتستوطنه وتتكاثر فيه.
الحرارة المرتفعة تلعب دوراً آخر في تغيير الخصائص الفيزيائية لمياه البحر المتوسط؛ إذ تتسبب في انخفاض درجة الأس الهيدروجيني للمياه (تزيد حموضتها)؛ نتيجة امتصاص كميات كبيرة من غاز ثاني أكسيد الكربون؛ وهو عامل آخر يجعل المتوسط بيئة مثالية لتكاثر قناديل البحر؛ وهذا ما أكدته دراسة منشورة في دورية «أسوسياشن فور ذا ساينسز أوف ليمنولوجي آند أوشنوجرافي» (Association for the Sciences of Limnology and Oceanography) في أكتوبر/تشرين الأول 2008.
دخلاء
يعد البحر الأبيض المتوسط بحراً شبه مغلق؛ لإحاطته بـ 3 قارات: آسيا، أوروبا وأفريقيا. عدا بعض الفتحات التي تربطه بالمسطحات المائية المحيطة، مثل مضيق جبل طارق التي تربطه بالمحيط الأطلسي، وقناة السويس التي تربطه بالبحر الأحمر، تلك الظروف صنعت منه نقطة ساخنة للتنوع البيولوجي؛ فهو موطن لما يزيد عن 17 ألف نوع من الكائنات البحرية، ويتعرض لغزو أنواع جديدة من المسطحات مائية أخرى، وفقًا لدراسة منشورة في دورية «بلس وان» (PLOS One) في أغسطس / آب 2010.
وبحسب «منظمة الأغذية والزراعة» (FAO)؛ فقد رُصدت ما يزيد عن 1000 نوع من الأنواع الغازية في البحر المتوسط.
تؤكد الدكتور «سها حمدي»، أستاذ مساعد في قسم البيئة البحرية، المعهد القومي لعلوم البحار و المصايد ملاحظات إبراهيم، بقولها إنّ العديد من أنواع قناديل البحر السامة دخلت البحر المتوسط بالفعل خلال السنوات الماضية، وتكاثرت بسرعة.
وتضيف حمدي أن هذه الأنواع تعمل كمنافس على الغذاء ضد الكائنات الأصلية. فقناديل البحر تعد منافساً لعدة أنواع من أسماك البحر المتوسط على ، وكلما زادت أعدادها، زاد التنافس على العوالق النباتية، وقد تقل كمياتها؛ نتيجة التنافس الهائل على المورد.
الأنواع البحرية الدخيلة، بحسب حمدي، قد تؤثر بشكل سلبي على الأنواع الأصلية بسبب التفاعلات المباشرة مثل الاعتداء والتنافس، ويمكن للأنواع الدخيلة أن تتكاثر بوتيرة أسرع من الأنواع الأصلية، ما يقلل جودة الموائل، ويقلل التنوع البيولوجي، الأمر الذي يؤثر في النهاية على مصادر الأسماك والأنواع المحمية.
غياب المفترس
تُشير دراسة منشورة في دورية «إنفيرونومنت إنترناشونال» (Environment International) في يناير / كانون الثاني 2023، إلى البشر لهم أيادٍ خفية تساهم في تكاثر قناديل البحر السريع، عبر الصيد الجائر للكائنات المفترسة لقناديل البحر، مثل السلحفاة البحرية(الترسة) التي تعيش في البحر المتوسط، والتي يصطادها البشر لاستخدام دمائها في أغراض علاجية؛ ما ساهم في انخفاض أعدادها، ودفع وزارة البيئة المصرية إلى إصدار قانون يمنع صيدها تمامًا.
وتقول “مي مسعود”، ناشطة بيئية مصرية، أنه السلاحف قد تعلق أحياناً في شباك الصيادين؛ فيأخذونها للبيع. تُضيف: “لا يوجد إلتزام بالقوانين بنسبة كبيرة جدًا، ويتعمد بعض الصيادين إخفاء السلاحف التي اصطادوها ليبيعونها”.
ذلك إلى جانب تعرض أعشاشها، حيث تضع البيض عند الشاطئ، للخطر؛ بسبب ارتفاع منسوب سطح البحر بمقدار 16 سم خلال آخر 100 سنة، نتيجة عن ارتفاع درجات الحرارة، إضافة إلى الزحف العمراني على الشواطئ، ما يؤثر سلباً على دورة تكاثر السلحفاة.
وجود بيئة مثالية في المتوسط، إضافة إلى غياب المفترس، أمر يجعل من الزيادة الكبيرة لأعداد القناديل تهديداً بحدوث خلل في المنظومة البحرية؛ بحسب الدكتور «خالد النوبي»، الرئيس التنفيذي للجمعية المصرية لحماية الطبيعة.
كيف يمكننا حفظ توازن الأنواع في النظام البيئي؟
يشرح النوبي أن النظام البحري، عبارة عن نظام بيئي متكامل، ولحمايته، هناك مجموعة من الخطوات التي يجب اتباعها: تبدأ بمسح يشمل المنطقة محل الدراسة، لمعرفة نسبة الزيادة أو النقصان في نوع من أنواع الكائنات بدقة، ومن ثمّ تقرير ما إذا كان هذا الكائن مهدد أم أنّ أعداده في زيادة واضحة؛ بعد ذلك، تأتي مرحلة البحث في أسباب هذا الخلل، واتخاذ إجراءات مناسبة.
وفي حالة ملاحظة زيادة أعداد بعض الأنواع، مثل في حالة قناديل البحر؛ فهناك العديد من الإجراءات التي يمكن اتخاذها: “يمكننا مكافحتها بيولوجيًا، عبر إضافة المفترس، بالإضافة إلى تشجيع صيدها”. يشرح النوبي.
وتوّضح مي مسعود، أنّ وجود السلحفاة في مياه البحر، يخفف من حدة انتشار القناديل، ونحتاج إلى نشر الوعي لحفظ السلحفاة من الانقراض.
0 تعليق
اترك تعليقاً