عبدالقادر الزبيدي
أُنتجت هذه المادة ضمن “ورشة الكتابة الصحفية عن القضايا البيئية وتغير المناخ في العالم العربي” بالتعاون بين شبكة تنمو ومؤسسة جرينش وبتمويل من مؤسسة فريدريش إيبرت. الآراء الواردة في هذه المادة تعبر عن كاتبها وليست بالضرورة تعبر عن الجهات المنظمة والداعمة لورشة الكتابة.
مرت 5 سنوات على توقف العمل بمزرعة اليمني عادل حسن الجابري البالغ من العمر (53 عامًا)، بعد محاولته حفر بئر ماء في مزرعته الواقعة في منطقة غيل عمر، بمديرية ساه شرق اليمن، وهي منطقة امتياز نفطي، حيث تفاجأ الجابري بتدفق النفط وسيلانه في المسيال المجاور لمنطقة الحفر، على إثر ذلك توقفت البئر والعمل ككل في مزرعته، مصدر دخله الوحيد.
لم يتعمق الجابري أكثر من 160 مترًا خلال حفره البئر، وهو أقل من العمق المطلوب لاكتشاف بئر نفط، لكنه واحد من عشرات المزارعين في المنطقة، الذين تأثرت مزارعهم وإنتاجهم الزراعي بسبب تلوث المياه الجوفية بالنفط ومخلفات إنتاجه، وإضافة إلى تلويثها للمياه، فهي تضر التربة في محافظة حضرموت، أكبر المحافظات اليمنية إنتاجًا وتصديرًا للنفط الخام.
قام فريق بحثي تابع لشركة “بترومسيلة”، وهي شركة يمنية تعمل في مجال استكشاف وإنتاج النفط الخام منذ العام 2011، بأخذ عينات من المواد السائلة التي فاجأت الجابري، ولكن حتى الآن لم تصدر الشركة أي تقرير يوضح ملابسات الواقعة أو يشرح مدى مسؤوليتها عنها.
تاريخ النفط اليمني
بدأت الأعمال الاستكشافية عن النفط الخام في اليمن عام 1938م، عندما قامت شركة البترول العراقية (نفط العراق) بمسوحات زلزالية (seismic) في محافظتي حضرموت والمهرة، وهما أكبر محافظتين في البلاد.
تلت ذلك أعمال استكشافية متقطعة من قبل الشركات الأجنبية، استمرت لعقود حتى أعلنت الشركة الأميركية “هنت-Hunt Oil” عن أول اكتشاف تجاري في اليمن في صيف 1984م في قطاع مأرب / الجوف، جاء بعدها إعلان الشركة الروسية “تكنو إكسبورت” عن اكتشاف آخر في محافظة شبوة عام 1987م.
وبعد عام 1990م، وسعت شركات النفط العالمية نطاق استثماراتها وعمليات التنقيب في أجزاء واسعة من أراضي اليمن، أدى ذلك إلى عدة اكتشافات، أهمها حوض المسيلة قطاع (14) في حضرموت، الذي تم اكتشافه في العام 1993م، وصار اليوم مصدرًا لأزمة الجابري والعديد من مزارعي محافظة حضرموت.
تبلغ مساحة حوض المسيلة حوالي 25,000 كيلومتر مربع، ويحتوي على 80% من احتياطيات النفط اليمنية المعروفة في 4 قطاعات مختلفة: قطاع 14 و10 و51 و53، وتديره حاليًا شركة بترومسيلة اليمنية.
يعد قطاع 14 الأكبر بينها، وهو أول منطقة إنتاج في حضرموت، ويحتوي على 16 حقلًا نفطيًا، بلغ ذروة الإنتاج عام 2003 عندما وصل متوسط الإنتاج إلى أكثر من 200 ألف برميل يوميًا، وانخفض إلى 10 آلاف برميل يوميًا عام 2014.
تعد شركة بتر ومسيلة، في الوقت الحالي الأكبر من حيث كمية الإنتاج النفطي في اليمن، ويتهمها عدد من النشطاء والسكان المحليين بتلويث المياه الجوفية والتربة في المنطقة بمخلفات النفط، من خلال حقن كميات كبيرة من المياه المصاحبة للنفط في جوف الأرض.
مياه سوداء
يقول الدكتور الخراز عبد القادر، الرئيس السابق لهيئة حماية البيئة: “إن المياه المصاحبة للنفط هي مياه ملوثة، تحتوي على عناصر سامة من مواد ثقيلة نفطية، وتكمن المشكلة في حقنها بدون معالجتها”، وهي طريقة بدائية بحسب الخراز، ولها بدائل مثل إعادة تدوير مخلفات النفط واستثمارها.
تختلف حضرموت عن بقية مناطق التنقيب والإنتاج النفطي، بحسب الخراز، حيث يتم إنتاج ما يقارب 4 براميل من المياه مقابل كل برميل نفط يتم إنتاجه، هذه المياه مختلطة بمواد الحفر (هيدروكربونات النفط) السامة والمسرطنة.
الأمر الذي يثير القلق هو وجود ادعاءات بأن “بترومسيلة” لا تفصح عن كمية الإنتاج اليومي الحقيقي من النفط، كونها دليلًا كاشفًا عن كمية المياه المصاحبة التي يتم استخراجها وإعادة حقنها مرة أخرى في جوف الأرض.
يقول المهندس النفطي لشركة بترومسيلة سابقًا (م.ع.ب)، والذي رفض ذكر اسمه، أنه أثناء الحفر “يتم ضخ سوائل سامة بضغط عالٍ تساعد في عملية الحفر وتفتيت الطبقات”، ويضيف: “هناك طبقات تحتوي على كهوف من المياه الجوفية تتسرب إليها المواد السامة”.
وتظهر الصور التي التقطها الجابري، أثناء حفر البئر في مزرعته منذ 5 سنوات، مدى تضرر المياه الجوفية بالمخلفات النفطية، والذي على إثره توقف العمل في البئر وفي مزرعته بالكامل.
تظهر نتيجة فحص عينة بئر ارتوازي لمشروع مياه رسب، الصادرة عن الهيئة العامة لمشاريع مياه الريف بتاريخ 25/1/2022م، وهو مشروع مجاور لحقول النفط، وجود عنصر المنجنيز في المياه، وهو عنصر مصاحب للنفط.
يقول عوض باصالح، رئيس قسم المياه بالمختبرات المركزية، إن تلك النتيجة لا تعد دليلاً قاطعًا نظرًا لعدم فحص المياه لكربونات النفط.
وبسؤال مركز أبحاث جامعة حضرموت والأبحاث الزراعية عن جهاز فحص العينات الذي يمكنه القطع في المسألة، ذكر مسؤولو الجامعة أن هذا الجهاز يسمى “كروماتوغرافي (HPLC)” وهو غير متوفر في اليمن.
وبحسب تصريح مدير الأبحاث الزراعية، فإن الجهاز متوفر لدى شركة قطاع 10 بترومسيلة (توتال اليمن سابقًا)، وأشار إلى أنه لم يتم السماح بفحص أي عينات أو مشاركة أي نتائج للعينات التي تحصل عليها الشركة.
اعتراف مبتور
تعترف شركة (بترومسيلة) لاستكشاف وإنتاج النفط عبر موقعها الرسمي بأنها تقوم بعملية حقن المياه المصاحبة للنفط في جوف الأرض بعد معالجتها، مخالفة بذلك قانون حماية البيئة رقم 26 لسنة 1996، والذي تنص مادته رقم 22 من الفصل الأول بالباب الثالث، المعنية بالأنشطة المضرة بالبيئة.
المــادة (22): “لا يجوز لأية وزارة أو هيئة أو مؤسسة أو شركة عامة أو خاصة أو تعاونية وكذلك أي فرد استخدام البيئة اليمنية بإلقاء أو تجميع أو تصريف أو دفن ملوثات البيئة بالأنواع أو الكميات التي تضر بالبيئة أو تسهم في تدهورها أو تلحق أذى بالموارد الطبيعية أو الكائنات الحية أو تخل أو تمنع الاستخدام أو الاستعمال أو الاستغلال المشروع للبيئة”.
تذكر الشركة على موقعها الإلكتروني أيضًا أنها تقوم بعملية معالجة تلك المياه قبل عملية الحقن، لكنها لا تستطيع إثبات ذلك.
يؤكد المهندس (م.ع.ب) أنه “عند عمليات الإنتاج، تصعد كميات كبيرة من المياه المصاحبة للنفط، ويتم فصلها عبر محطات خاصة، ثم بعد ذلك يتم حقن المياه في مكمن من أجل رفع النفط”، ويضيف: “لا تتم معالجة المياه نهائيًا”.
ويقول الدكتور محمد عبد الرحمن الحبشي، أستاذ اقتصاديات المياه في جامعة صنعاء سابقًا ورئيس الفريق البحثي للمياه المصاحبة للنفط: “في اليمن لا يتم معالجة المياه لأنها تكلف الكثير، لذلك يتم حقنها في المياه الحلوة”.
قبل عقدين، أجرى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بالتعاون مع الحكومتين الهولندية واليمنية، مسحًا في مناطق وادي عدم بمديرية ساه في حضرموت، وهي منطقة امتياز نفطي تجاورها القطاعات الإنتاجية (10-14-51)، كشف المسح عن مسارات الملوثات من المياه المصاحبة للنفط.
السماد القاتل
يضيف (م.ع.ب): “أكبر مشكلة تواجه شركات النفط هي كيفية تصريف مخلفات الحفر والإنتاج الثقيلة؛ لذلك يتم وضعها في ‘كريف’، ثم تأتي الأمطار والسيول وتجرفها إلى الأراضي الزراعية القريبة من الأحياء المدنية، ويتأثر بها بشكل مباشر سكان مناطق الامتياز النفطي، والأحياء البيئية المجاورة لهم”.
الكريف هو حوض من التراب تتراوح أبعاده بين 30*30 متر أو 10*20 متر، وبعمق 4-5 أمتار، يتم وضع النفايات النفطية مثل نفايات الحفر والإنتاج فيه، ومن المفترض أن توضع طبقة عازلة (لاينر) عن التربة وتغطيتها من أشعة الشمس كي لا تتبخر في الهواء.
لكن ما يحدث بحسب المصدر، هو عدم استخدام العزل أو استخدام عازل رخيص غير مكلف يتحلل في مدة لا تتجاوز الشهرين بسبب أشعة الشمس. تبقى هذه المواد لفترات طويلة، وتحتوي على كربونات نفطية سامة ومواد مشعة مثل (جاما- بيتا- ألفا) بسبب التكوين الصخري في قاع الأرض.
بالاطلاع على صور جوية من يوليو 2023م، تظهر المئات من الأحواض “الكريف” في حقل المسيلة قطاع 51 النفطي التابع لشركة بترومسيلة، ومعظمها فوق أسطح الجبال في مرمى مياه الأمطار التي تتجمع في قممها ثم تنزل على شكل سيول يستفيد منها المزارعون في ري أراضيهم الزراعية في وادي حضرموت، إلا أنها تتحول إلى سماد قاتل للأراضي الزراعية.
موقف الدولة
ينص قرار تأسيس شركة بترومسيلة الوزاري، رقم 244 لعام 2011، في مادته الثانية على خضوعها لرقابة وإشراف وزارة النفط والمعادن (هيئة استكشاف وإنتاج النفط)، ولكن منذ العام 2015 مع اشتعال الحرب اليمنية، لا تستجيب الشركة للهيئة ولا تسمح لها بالإشراف والرقابة.
يؤكد المهندس أسامة باشراحيل، مدير مكتب الهيئة بحضرموت: “لا توجد لدينا أي نتائج أو تقارير إشرافية أو رقابية عن الشركات النفطية، وشركة بترومسيلة الوطنية رافضة تمامًا التعامل مع الهيئة، وترفض أي فرق إشرافية أو رقابية وتمنعهم من الوصول”.
في عام 2013، طالبت حملة شعبية بوقف عمل شركة “بترومسيلة” نتيجة تلويث أعمالها لأراضي السكان المحليين الزراعية.
وفي يناير من العام 2014، صدر قرار رئاسي يلزم شركة بترومسيلة بإحضار مختصين في مجال البيئة لدراسة الوضع البيئي في منطقة العمليات البترولية وآثارها، لمحاسبة الشركات المتسببة بهذه الأعمال وإلزامها بدفع التعويضات وإزالة الضرر البيئي، وفقًا لمؤشرات البيئة في الصناعات النفطية خلال فترة أقصاها ستة أشهر من تاريخ القرار.
إلا أن القرار لم يتم تطبيقه، بحسب مدير مكتب الهيئة العامة لحماية البيئة بوادي حضرموت، المهندس عمر بن شهاب، الذي أكد عدم استقدام الشركة لأي متخصصين لدراسة الوضع البيئي.
0 تعليق
اترك تعليقاً